تصاب اللغات بأوبئة مختلفة، فتفسد لسنوات مفردات اللغة، النحو، العروض، البلاغة، هكذا يرى الشاعر المكسيكي الراحل أوكتافيو باث في مقالة له بعنوان «انحرافات اللغة».
و إذا جاز اعتبار اللغة كائناً حياً، فهل يمكن القول إنها تتأثر بمستويات الخطاب الذي تحمله عبرها، وكذلك تتأثر بنوعية العقول التي تستقبل ذلك الخطاب؟
الفكرة السائدة اليوم ما بين ظلال فكرتين هما موت المؤلف وموت الناقد، أن ثمة كائناً يمكن أن يدعى اللغة النخبوية، في مقابل كائن آخر ينهض كعنقاء عملاقة من كنف جماهيرية شعبية، ويدعى اللغة الخاصة أو اللغة التي تخترع لتعبر عن العامة وتربط بينهم في مستويات من الفهم والتفاهم مقبولة على الأقل بينهم.
لعل أحدث مثال على تلك القطيعة التي باتت تتجسد شيئاً فشيئاً بين أنماط الخطاب النخبوي الموجهة للجمهور، وبين لغة الجمهور التعبيرية ذاتها، هو ما حدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية.
لقد أسفرت تلك الانتخابات فيما أسفرت عنه من نتائج، عن عجز الخطاب الإعلامي والمثقف بشكل عام عن اختراق ذهنيات غالبية الشعب، أو على الأقل استكناه تغيراته وانعطافاته التي قد تسهم في صياغة خطاب مرن ملائم لذلك.
وبرغم جاذبية الفكرة التي يحملها ذلك الخطاب المعد بعناية، وبرغم احترافيته وخبرته المتراكمة في التأثير فإنه واجه على الأرض وفي لحظة الحقيقة والاختيار نتائج أخرى غير التي كان يأمل، أو التي هو متعود عليها عادة.
لقد قال الصحفي كارل برنستين، وأحد المراسلين الصحفيين اللذين كشفا فضيحة ووترغيت عام 1974 وهو يعبر عن تبنيه خطاباً مناهضاً للرئيس دونالد ترامب إبان الحملة الرئاسية الأمريكية الماضية، ومن المفروض أن يكون لكلامه، وللغته الخطابية قبول واسع: «إننا نواجه ضرباً جديداً من الفاشية في ثقافتنا تقوم على فكرة سلطوية وديماغوجية، تتبنَّى فكرة معاداة المهاجرين والتعصّب التي يناصرها ترامب، وأعتقد أن الحاجة تدعو لتأمّل الماضي، ولحدِّ علمي حتى الآن، لم يسأل أي صحفي دونالد ترامب هذا السؤال: «ما الفاشية، سيد ترامب؟، ما الاختلاف بينك وبين أي خطاب فاشي»؟
يبدو الخطاب جذاباً لكل النوازع الإنسانية التي تم إذكاؤها في نفوس الجماهير منذ بدايات القرن الماضي، لكنه لم يصل، فما الذي حدث إن لم تكن الجماهير قد اختارت لغاتها المختلفة؟.
يسود حالياً في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي رسائل الجوال القصيرة نمط من التعبير، لا يستخدم تشكيلات اللغة العادية ولا أحرفها، بل يكتفي أحياناً كثيرة بأيقونات تعبيرية تحل محل اللغات، ويصنع مع ذلك تفاهماً واسعاً حتى بين الثقافات المختلفة، إنه في إحدى تفسيراته المباشرة ثورة على اللغة، وخطاباتها الماضية، وربما هو ثورة على دلالاتها الفكرية، واستحداث للغات جديدة وبأفكار مختلفة.
pechike@gmail.com