هؤلاء الذين لم يسجلوا حضورهم في حساباتك الشخصية، ولم يتنافسوا على سرقة انتباهك، ولم ينافسوا أحداً لسحب البساط من أسفل قدميه، لا يجلسون على مقاعد في الصفوف الأمامية ولا يضعون فوق صفحاتك إعجاباتهم ولا يرسلون لك زهوراً وابتسامات وقطع حلوى أو تصفيقات حماسية، لكنهم الأكثر انشغالاً بك وهم الأشد انتباهاً لما تسجله وما تتركه من انطباعات، والأكثر تأثراً بكل ما تقوله وما تفكر به وما تضع عليه بصمتك ورأيك وتطلعاتك، لهذا عليك أن تكون أشد حرصاً عليهم من نفسك وممن تعرفهم وتتواصل معهم، وأن تنظر إليهم بعين قلبك، لأنك لم ترهم بعد، ولن تراهم ربما، فاكتب لهم مخلصاً، وسجل لهم ما تعلم بأنه يستحق أن يعبر عنك وأن يصل إليهم، فيحكي لهم من أنت ومن تكون ولماذا بقيت في حياتهم، رغم غياب كل الآخرين منها وعنها.
أولئك الغائبون عنك والبعيدون عن مسارك، هم متابعوك الحقيقيون الذين يقبعون في المستقبل وسيأتون بعد انتهاء عملك، ليقرأوا كل ما كتبته، فيفكروا به ويحللوه ويسجلوا كل ما لم تتوقع أن يكتبوه أو يستكشفوا منه تاريخ أمتك وسيرتك. فلا تنسَ أيها الأديب، بأن كل كلمة تركها لك كل من سبقوك يوماً، هي التي شكلت جزءاً من شخصيتك وحفرت في عقلك شيئاً من أفكارهم، فإن كنت قد نجحت في النجاة من الرداءة وانحطاط الكلام، فهذا يعني أنهم قد أحسنوا الكتابة لك ومنحوك ميراثاً عظيماً، وإن كنت فشلت وتعثرت في حفرة الابتذال، فهو يعني لا مبالاتهم بك، فتركوا أضعف ما يمكنك الارتكاز عليه، وضيّعوك بكل ما سجلوه من سخف وألقوا بك في حفر الضحالة، لأنهم لم يفكروا بك ولم يدركوا أن كل كلمة تقال في الماضي هي حجر أساس تكوين جيل سيأتي في المستقبل، وصخرة يرتكز عليها فكر كل من سيأتي بعدهم.
وتذكّر أيها الأديب، بأنك مسؤول عن كل كلمة وفكرة، فهي ستثمر إن أحسنت غرسها واعتنيت بها وسقيتها من أحسن منابع الفكر والرأي الحصيف، وستنشر الفساد إن سقيتها بالعبث واللامبالاة، فتضيّع أجيالاً بدلاً من أن ترشدهم، وتغرق أمماً بدلاً من أن تنجيها.
باسمة يونس
basema.younes@gmail.com