محمد ولد محمد سالم
من ميزات مهرجان نواكشوط للشعر العربي الذي اختتمت فعالياته مؤخراً أنه جمع بين أجيال شعرية متعددة، وقدم خريطة مختزلة لراهن الشعر في موريتانيا، فرجع بنا إلى جيل الاستقلال في الستينات والسبعينات، وما صاحب ذلك الجيل من حماسة سياسية وثورية، وأحلام بوطن متطور ومزدهر وأمة عربية قوية متماسكة، ومساواة إنسانية، عكستها أشعار تطفح بالثورة، وتشكل كلماتها جمراً حارقاً يشوي جلود الأعداء، وساح بنا المهرجان كذلك بين شعراء الواجهة الأدبية الراهنة في موريتانيا الذين تكونت تجربتهم على مدى العقود الثلاثة الماضية، والذين يشكل كل واحد منهم تجربة غنية، واختزالاً لتاريخ إبداعي جميل، ثم وصل بنا إلى أحدث الشعراء، إلى شباب مسهم الشعر، وتشبعت أرواحهم به، وبدأوا يكتبون شعراً راهناً بديعاً بصوره ولغته الحداثية القوية، لقد نجح المهرجان في إبراز تلك الأجيال الشعرية، وإحداث تفاعل بينها.
من ميزات المهرجان أيضاً أن جمهوره الغالب هم الشعراء وأساتذة الجامعة والطلاب، ويشكل هذا التلاقي تناغماً جميلاً، فبعد كل أمسية حدث نقاش عفوي وتقييم مرتجل للقصائد التي ألقيت، يتبادل فيه أساتذة الجامعة الآراء مع الشعراء، ويفصلون في أساليب القول، ويستمع الطلاب إلى ذلك بإنصات من يريدون أن يفهموا ويستوعبوا، ليأخذوا معهم رؤى نقدية صائبة، وفهماً أكثر عمقاً للشعر وفاعلية أدواته، ما يفيدهم في دراستهم، ومستقبلهم الإبداعي أو النقدي، ولن يعدم المتفرج على ذلك المشهد أن يرى طالباً يحمل بيديه ورقة وقلماً، ويقترب من شاعر من المشاركين في الأمسية فيطلب منه إعادة قراءة بيت أو مقطع من إحدى قصائده، ليدونه الطالب بشكل صحيح، حتى يحفظه صحيحاً، وهذا الاهتمام والنقاش لا شك أنهما مطمئنان على واقع الشعر في موريتانيا، ويبشران بأن الأجيال فيها لا يزال يأخذ بعضها عن بعض ويستمع بعضها إلى بعض، فلا يخشى عليها انقطاع نهر الشعر.
كل تلك علامات تدل على أن الشعر لا يزال ضارباً بجذور عميقة في تربة شنقيط، وأن بلد المليون شاعر ما زال ينتج الشعراء، وأنه ينطوي على الكثير من التقاليد الثقافية التي تسهم في صناعة المبدعين، ولا ينقصه إلا قليل من العمل الجاد والمنظم لكي يظل نهر الشعر فيها متدفقاً رقراقاً، ولا شك أن ما يقوم به بيت الشعر في نواكشوط ومهرجانه هو نوع من ذلك العمل المطلوب.
Dah_tah@yahoo.fr