الحب يجعل القصائد تسير مختالة تتهادى، وكأنها تعطرت بلهفة الشوق، فانتشت وأخرجت معانيها كثمر مبذول، وعلى هذا النسق أتت قصيدة «يا راحلين إلى منى» للشاعر عبد الرحيم بن أحمد البرعي اليماني، لتعبر عن أسمى معاني الشوق، شوق يرتاح فيه البدن وتسمو الروح. سطع نجم البرعي في النصف الثاني من القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الهجريين في اليمن، وانتشر وهجه ليشمل أركان العالم الإسلامي، من زمنه وحتى الآن. امتلأ قلبه بحب الله ورسوله، فأحبه الناس، وقد وظف مقدرته على نظم الشعر في ذكر الله، وحب الله ورسوله، وقد انتشر شعره بين الناس لدرجة أنهم صاروا يقرأونه في الزوايا والمناسبات الدينية والمساجد تقرباً لله سبحانه وتعالى، وقد حصل على نصيب كبير من العلم حتى اشتهر وسط المسلمين.
في هذه القصيدة يخرج البرعي لواعج الشوق والتمني باللقاء عبر موسم الحج، فقد أراد أن يحج ويزور البيت الحرام، وقد حُمل في المسير إلى الحج على جمل، ولمَّا صار على بعد 50 ميلا من مكَّة أحسَّ بدنوِّ أجله، فنظم هذه القصيدة، حتى إذا بلغ البيت الأخير منها لفظ أنفاسه ومات، والقصيدة أتت حافلة بصور البيان والبديع والاستعارات، والصور والوصف البديع، مما منحها جمالاً، وكذلك تدفقت معانيها ولكأنها نبع من معين الحب الصافي.
في مستهل قصيدته يقول البرعي:
يا راحلين إلى منى بقياد
هيجتم يوم الرحيل فؤادي
سرتم وسار دليلكم يا وحشتي
الشوق أقلقني وصوت الحادي
حرمتم جفني المنام ببعدكم
يا ساكنين المنحنى والوادي
في تلك الأبيات الاستهلالية يبث البرعي شكواه ويصور حال نفسه التي اهتاجت و ألم بها الحنين والشوق الشديد، ومعاناة الشاعر تزيد وهو يرى الركب يتقدم وصوت حاديه يعلو مؤذناً بالانطلاق الكبير صوب بيت الله الحرام، حيث الحب الذي يجمع جميع المسلمين، فخرج منه هذا الداء الحزين الذي استهله بالنداء «يا راحلين»، فقد كان يمني نفسه بما يذهب عنها الظمأ للقاء الحبيب بزيارة البيت الحرام، لكن حظه العاثر قد منعه وهو على بعد أميال من مكة، فقد تمكن منه المرض ودب إليه الهذيان فصار يناجي ويبث شكواه وحبه وعشقه العظيم، يقول:
ويلوح لي بين زمزم والصفا
عند المقام سمعت صوت منادي
ويقول يا نائما جِدّ السرى
عرفات تجلو كل قلب صادي
من نال من عرفات نظرة ساعة
نال السرور ونال كل مراد
تالله ما أحلى المبيت على منى
في ليل عيد أبرك الأعياد
ثم أنه في حاله تلك، وقد أخذ منه المرض مأخذاً، وما بين الصحو والنوم، يسمع صوتاً منادياً، كما هي الرؤى عن المحبين، ذلك الصوت الذي يحثه على أن يجد في الوصول إلى عرفات حيث الخلاص، وحيث القلوب تغتسل من الذنوب والآثام والخطايا، وحيث السرور والرضا، وحيث عاش ومات النبي صلوات الله وسلامه عليه، فعبر عن تلك المشاعر الغريبة بهذه الأبيات التي كأنها أتت من مكان سري في قلب يهفو ويلفه الشوق، ويمني النفس بنظرة وزيارة لعرفات ومنى فمن زارها فقد نال حظ الحياة الدنيا، وما من مكان أجمل من منى، وتلك الأماكن والشعائر التي يكثر من ذكرها إنما ترمز للحب الأكبر حبه لله ولنبيه.
ضحوا ضحاياهم وسال دماؤها
وأنا المتيم قد نحرت فؤادي
لبسوا ثياباً بيضاً شارات الرضا
وأنا الملوع قد لبست سوداي
فإذا وصلتم سالمين فبلغوا
مني السلام أهيل ذاك الوادي
قولوا لهم عبد الرحيم متيم
ومفارق الأحباب و الأولاد
وبينما هو في مكانه ذاك الذي لا يبعد كثيراً عن مكة فإذا به يرى رفاقه من الحجاج قد وصلوا عرفات ومنى، وقد ذبحوا الذبائح، بينما هو يأخذه الندم والعجز عن اللحاق بهم، ثم إنه ليراهم وقد لبسوا الثياب البيض، والتي هي من شارات الرضا، وكيف أنه قد لبس بالمقابل السواد لبعده عنهم وعن البيت العتيق، فيجري مقابلة يعبر فيها بالبياض كرمزية للخلاص، و بالسواد والذي يرمز للحظ العاثر، وهو لا يكتفي بتلك المشاهد، بل يخاطب الحجاج وكأنه على ثقة من سماعهم له، ويناشدهم أن يبلغوا سلامه لتراب تلك الأرض التي شهدت سيرة النبوة، ومولد النبي «صلى الله عليه وسلم»، طالباً منهم أن يبلغوه أنه متيم ومحب وعاشق، وأنه قد وصل إلى النهاية حيث الموت، فهو مودع هذه الحياة، مفارقاً لها ولمتاعها وزينتها من الأحباب والأولاد.
صلى عليك الله ياعلم الهدى
ما سار ركب أو ترنم حادي
ويستسلم البرعي العاشق لمصيره الأكبر، لكنه وقبل الرحيل يصلي على النبي، يعلن عن حبه الذي ملأ فؤاده بكلمات الصلاة على النبي، والتي يتمنى أن يقول بها كل ركب متجه إلى بيت الله، وأن يترنم به كل حاد لركب الحجاج المتجهين إلى الأماكن المقدسة.
إن البرعي في تلك الأبيات يعبر عن حبه وشوقه، ويكثر من الرمز والخيال حيث يتخيل أن مناديا يناديه ويبصر مشهد المسلمين في الحج، يعكس لنا تلك الصور المعبرة والمشوقة التي تأخذ الألباب والأفئدة، بوصف من رأى ومن سمع.