Quantcast
Channel: صحيفة الخليج | ثقافة
Viewing all articles
Browse latest Browse all 18080

«الكاتب والآخر».. الحرية وعطالة الإبداع

$
0
0
الشارقة: علاء الدين محمود

تجربة حياتية مختلفة خاضها الكاتب الأورجواياني كارلوس ليسكانو، حيث تعرض للاعتقال حين كان في الجامعة، وقضى ثلاثة عشر عاماً ذاق خلالها صنوف التعذيب داخل المعتقلات، في تلك الأجواء تشكل الكاتب في داخله، وهي بالطبع أجواء غير طبيعية، لكنه تغلب على تلك الصعاب، ونجح في مجال الإبداع، عندما قام بكتابة مجموعات شعرية، وأعمال مسرحية، وعدد من الروايات. وتجربته بطبيعة الحال جديرة بتأمل واستكشاف الطريق التي سار فيها حتى صار واحداً من أبرز أدباء الأورجواي.
في مؤلف «الكاتب والآخر»، الصادر عن مشروع كلمة بترجمة ل«نهى أبو عرقوب»، يتناول ليسكانو تجربته الخاصة، التي حفلت بالكثير من المعاناة في حياة السجون والملاحقات، متأملاً تلك حياة ومحاولات بدئه الكتابة، والتجربة التي ألمت به عندما عجز على مدار أكثر من عام من الزمن، من البدء في مشروع كتابة عمل روائي، حيث وجد نفسه غير قادر على الإنجاز وقد تخلت عنه مخيلته، ورغم محاولاته المستمرة حيث قضى أياماً في انتظار أن يبدأ الكتابة، لكنه وجد نفسه بلا رغبة ولا اندفاع كما كان في الماضي، لم يجد ذلك العنف ولا الإيمان اللذين كانا يحركانه، فها هو يكرر نفسه، يعود لغزل الخيوط من جديد، مسجون لا يدري كيفية الخروج من التكرار.
يقدم ليسكانو إلى جانب تلك التجربة التأملية في «استحالة الكتابة»، جانباً من حياته الإبداعية داخل المعتقلات، وهي اللحظة التي نهض فيها الكاتب داخله، ولكن هذا الاندفاع الكبير نحو الكتابة في أيام المعتقلات، انخفض كثيراً، لحظة معانقته للحرية وخروجه من السجن، حيث بنى شخصية الكاتب داخل السجن - هذا هو «الآخر» الذي يقصده في عنوانه- ويقول عنه: «يعتريني الإحساس أنني قمت ببناء شخصية هي شخصية كاتب، وأعرف أنه وراء هذه الشخصية لا يوجد شيء»، وينصرف إلى شرح هذه المسألة، والإبداع الذي تخلى عنه عندما خرج من عوالم السجن، لقد واجه مشكلة «عطالة» حقيقية على مستوى الأفكار والإبداع، فشردت عنه الكلمات، وجافته المقدرة الكتابية.
يفرد المؤلف صفحات عن تلك الأيام العصيبة، التي واجهها بكثير من مشاعر الألم والحزن والمرارة، عاش أياماً في العزلة بلا إنتاج إبداعي، وأراد أن يخرج من هذه الحالة التي كادت أن تفضي به إلى الجنون، فقد كانت حياته داخل السجن غنية بالأفكار، ولكن حياة الحرية أدخلته في معتقل الكآبة والألم الناجم عن فقدان الدافع للإبداع، وينتابه إحساس قاتل بأنه كان كاتبا ولم يعد كذلك، وتتسرب إليه مخاوف من أن لا تعود إليه المقدرة على الإبداع.
الكتاب الذي بين أيدينا هو نتاج لتلك الأفكار السوداوية التي باغتت الكاتب، فقرر أن يتحدث بكل شجاعة عن تلك الليالي الطوال التي قضاها غارقاً في بحار من الهموم، وفي حالة انتظار طويل، ومخاوف جمة. ولأنه فقد حريته في السجن، كانت الكتابة بالنسبة له الملاذ والمقاومة والصبر، ورغم أنه عاش حياة الحرية عندما خرج من السجن، لكنه اكتشف أنه لا يستطيع الاستمرار بلا إبداع، فهي مسألة تتوازى مع الحرية، لقد وجد أن الأدب هو مركز حياته، بل أصبح الأدب والحياة في حالة اتحاد عضوي، مما يعني أن استحالة الكتابة بالنسبة له تعني استحالة العيش، فلا حياة خارج الكتابة.
وربما نجح الكاتب في العودة إلى الكتابة الإبداعية، من خلال هذا الكتاب، فقد أظهر براعة كبيرة في الوصف، وتصوير حياة السجن، وما بعد السجن من خلال الأيام التي قضاها في التمزق والشك وعن الإبداع والإلهام والقلق. حيث يوفر هذا الكتاب متعة كبيرة، ويشهد على مقدرة المؤلف الإبداعية، التي يبدو أنه قد استعادها تماماً من خلال سرد شيق، وسيرة ذاتية حافلة بالتفاصيل، حشد فيه كل الإمكانات التي كانت غائبة في لحظة من حياته.



Viewing all articles
Browse latest Browse all 18080

Trending Articles



<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>