Quantcast
Channel: صحيفة الخليج | ثقافة
Viewing all articles
Browse latest Browse all 18085

«وادي السير»للتل.. المكان يطارد الشاعر

$
0
0
الشارقة: محمدو لحبيب

يعتبر الشاعر الأردني مصطفى وهبي التل الشهير «بعرار» من أبرز شعراء القرن العشرين وأجزلهم عبارة، وقد ارتبط شعره بالمكان في ثنائية أعطت لكل واحد منهما وجوداً قائماً بذاته داخل الآخر، فالمكان عند مصطفى وهبي التل ليس مجرد أرض يمر عليها صباح مساء، يعجبه مناخها تارة ويزعجه تارة أخرى، يستظل بسمائها و يطأ ترابها.
المكان الذي تردد في شعره وهو المكان المعروف ب «وادي السير» يعتبر عنده معلماً يتمنى التوقف عنده طويلا لعاطفة مشبوبة مرتبطة به، ولذكرى عزيزة تسكن تفاصيله ويعبر عن ذلك قائلا:

ليت الوقوف بوادي السير إجباري
                        وليت جارك يا وادي الشتا جاري

ووادي السير هذا هو من المدن القديمة في الأردن التي كانت مأهولة بالسكان ولقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى إحدى ملكتين كانتا تحكمان المنطقة قبل الميلاد هما الملكتان (سيرا وسارا)، ثم تعارف الناس عليها بعد ذلك (بوادي السير).
وتقع منطقة وادي السير إلى الغرب من العاصمة عمان، ويمكن تحديد حدودها من خلال الحدود الإدارية لأمانة عمان، حيث تنحصر ما بين منطقة تلال العلي وصويلح (شمالا) وبلدية الوادي الأخضر (جنوبا) ومنطقة زهران (شرقا) ومنطقة بدر الجديدة (غربا).
وقد استقر قوم من العمونيين بقيادة أميرهم «طوبيا» في منطقة وادي السير العام 360 قبل الميلاد. وورد اسم طوبيا في مخطوطات «زينون» التي عثر عليها في الفيوم بمصر،
وقد أفرد الشاعر التل مكانة واسعة لوادي السير في شعره وتجلت تلك المكانة في أبيات عديدة تناثرت كالورد داخل أشعاره، وفي قصيدة تفردت لذكر المكان عينه، لكن ذكر وادي السير كمكان عند مصطفى وهبي لا يأتي بشكل مباشر متغن بالشكل الجغرافي لذلك المكان، بل يأتي كنوع من البكاء على الأطلال وربطها بالمعشوقة تغزلاً فيها واستحضاراً لسيرتها وذكراها كما كان يفعل الشعراء العرب الأولون في العصر الجاهلي وما بعده.
ومن الأمثلة على تلك الرؤية المكانية الخاصة عند عرار قوله:

يا جيرة البان ليت البان ما كانا
                        ولا عرفنا بوادي السير خلانا

ومن الواضح هنا أن الارتباط العاطفي بالمكان عند الشاعر هو ارتباط بمن سكنوا ويسكنون وادي السير، وهو يعزز ذلك الانطباع في أبيات أخرى عديدة حين يقول مثلا:

فلا ذكرى تؤرقنا ولا آمال ترعانا
                           ولا حسناء تؤنسنا صبابتها بمنفانا

والمكان ببيئته الحاضنة للجمال هو موطن احتفاء الشاعر ومكمن غرامه وافتتانه به حين يقول مفصحاً بشكل واضح عن ذلك:

ظبيات وادي السير هل نفرت
                         من سربكن الظبية السمرا
فهي التي خطت أناملها
                         في سفر حبي آية غرا

والأبيات السابقة من قصيدة تكاد تكون بكاملها عن ظباء وادي السير التي فتنت شاعرنا وأغرته بالمكان، فبات ينظر إليه باعتباره أكبر من مجرد تسجيل لحدود حالة عاطفية ومثوى ليومياتها، لقد بات وادي السير عنده مكاناً أكبر من كل الحدود، واستمرأ الشاعر من خلاله أن يخاطب المحبوبة بعفة دون أن يفصح عن حبه بشكل مباشر مبتذل، بل اكتفى بمخاطبتها من خلال المكان، حين أفرد قصيدة لذلك بعنوان «تسول شاعر» فقال في مطلعها:

بين الأنين وغصة الذكرى
                         أبعد بعمر ينقضي عمرا
وانفض يديك من الحياة إذا
                     يوما أطقت عن الهوى صبرا
ما قيمة الدنيا وزخرفها
                    إن كان قلبك جلمدا صخرا

وبعد تلك الأبيات التي تظهر مدى رومانسية الشاعر وتعلقه بالحياة ورغبته في تحرير العاطفة من جمود يراد بها، يبدأ في الولوج لموضوعه المفضل ومكانه الذي لا يشبه المكان إلا رمزياً وهو وادي السير، فيقول منشداً في ظبائه وأجوائه:

ظبيات وادي السير هل نفرت
                       من سربكن الظبية السمرا
فهي التي خطت أناملها
                         في سفر حبي آية غرا

ثم يردف الشاعر بعد ذلك مبيناً كيف حوله حب ساكنة المكان إلى

قلب بات يحب كل شيء
                          ومضيت أسال كل فاتنة
كرما وجودا نظرة شزرا
                        ونشرت أحلامي وقلت لها
زفّي لنفسك ويحك البشرى
                         فالقلب قد عادته شيمته
وتدفقت قسماته بشرا
                        وتناقضت جنباته شغفا
وأقضّ وقع وجيبه الصدرا

وقد يخيل إلى القارئ لشعر عرار أنه ما ارتبط بوادي السير إلا لارتباطه بكائنة بشرية محددة تسكن تلك الربوع، لكن ذلك ليس دقيقاً كما يرى الدارسون لعلاقته بذلك المكان، فهو أي مصطفى وهبي التل قد سكن المكان لفترة طويلة في مهمة إدارية استغرقت بضع سنين، فارتباطه إذاً بوادي السير هو ارتباط أكبر من العاطفة السريعة أو النزوة العابرة، بل هو ارتباط وجودي امتزجت فيه العاطفة بالعقل، وانسجم فيه إحساس الشاعر بطبيعة المكان الساحرة صيفاً وشتاء، بالإحساس بالإنسان وسيرورته داخل ذلك المكان وتشبعه بقيم الجمال والحب داخله.



Viewing all articles
Browse latest Browse all 18085

Trending Articles



<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>