الشارقة: علاء الدين محمود
الأديب الروائي ليس فيلسوفاً، ولا هو يسعى إلى إنتاج مفاهيم ومقولات فلسفية داخل نصه، فللأدب أدواته المختلفة التي تصوغ العالم والواقع، وتتخذ موقفاً من الوجود، وهذا لا يعني، كما هو شائع، أن الرواية تصبح مجرد سرد دون فكرة، فالفلسفة في هذه الحالة تمثل مرجعية فكرية تلهم الكاتب.
الرواية لا تعبر بأية حال عن نسق فلسفي، ربما تشع الرؤية الفلسفية داخل السرد، أو تتخذ شكل ومضات تبصر القارئ بمضمون الرواية وموضوعها، حيث إن تعقيدات الواقع تحتم بالضرورة، التشابك بين الموضوعات الإنسانية المختلفة التي تتناولها الفلسفة ويعالجها الأدب، لكن هنالك تخوماً وحدوداً تفصل كل مجال عن الآخر، وذلك لاختلاف طرق وسبل وأدوات التناول، فبينما تقف الفلسفة في زاوية المنطق والعقلانية، فإن الأدب أو الرواية تحديداً، تجنح نحو الخيال والتحرر من قيود العقلانية المفرطة.
إن هذه الحدود لم تكن لتفصل بين المجالين بشكل قطعي، فكثير من الروايات حملت الصبغة الفلسفية بامتياز، وكذلك فإن بعض الفلاسفة كانت لديهم حساسية تجاه الأدب والسرد، فكتبوا روايات عبّرت عن مشروعهم ورؤيتهم الفلسفية، مثل سارتر.
ولعل رواية «كافكا على الشاطئ» للأديب الياباني هاروكي موراكامي، الصادرة عن المركز الثقافي العربي، بترجمة إيمان رزق الله، تسيرُ تماماً على خُطى الأدب الذي يستلهمُ الفلسفة، فقد حفلت بالأسئلة الوجودية، التي احتشد بها السرد، وتحركت في كل أنحاء متن الرواية، مثيرة قضايا الموت والحياة والحب والذكريات.
الأجواء الغرائبية تحاصر القارئ للرواية للوهلة الأولى، فتنفتح على مشاهد سوريالية، مثل رجل عجوز يجيد محادثة القطط، وأسماك تهطل من السماء، وجنود يعيشون في غابة منذ الحرب العالمية الثانية، وحجر سحري قد يقود إلى خراب العالم أو خلاصه، وهي قصص يضعها الكاتب في سياق سردي مذهل وساحر.
تنتمي الرواية إلى عوالم موراكامي ذات النسق الغرائبي والسوريالي المحتفي باليوتوبيا، فنجد أن السرد يبحث عن أسرار الوجود من خلال حكايتين تسيران في خطوط متقاطعة، الأولى تتحدث عن شاب في حالة هروب من لعنة والده القاتمة، هو «كافكا تامورا»، الذي يتعرف أثناء تجواله بين الأمكنة، إلى معانٍ جديدة للحياة، من خلال التقائه بشخصيات من خلفيات عدة، شكلوا له إضافة كبيرة من المعاني، جعلته ينظر إلى الحياة من واقع مختلف، والثانية تحكي عن رجل عجوز «ناكاتا» يطارد نصف ظله الضائع، فيصاب بنوع من الخلل العقلي جراء حادث غريب وقع له في الحرب العالمية الثانية، ليتخيل له أنه يستطيع فهم لغة القطط والتحدث إليها، ويهرب العجوز «ناكاتا» من طوكيو بسبب تورطه في جريمة قتل والد كافكا، وهنا تحديداً تقترب الخطوط المتوازية للحكايتين، فالأقدار تجعل «ناكاتا» يلتقي بكافكا، ليصبح ملهماً له في فهم الحياة، والحكايتان تجمعهما خيوط السرد، بعوالم الحب والموت والوجود.
تجري أحداث القصة وتفاصيلها في فضاء غائم ومتشظٍ، في أماكن وأزمنة مختلفة، بحيث تصبح الرواية عابرة للهويات والزمان والمكان، فلا تعبر عن واقع معين وإنما عن حالة أو فكرة، وربما هذا ما دفع النقاد اليابانيين إلى حيرة كبرى، حيث ذهب معظمهم إلى أنها لا تنتمي إلى أدب اليابان وواقعه، وهذه حقيقة، فما أراده موراكامي، هو التجوال السردي البديع بين ثقافات مختلفة، ليؤكد أن هناك شيئاً ما يتفق عليه جميع الناس، وهو البحث عن سر الوجود وأسئلة الحياة، ولكن بعكس ما ذهب إليه النقاد، فإن الرواية تنتمي إلى الثقافة اليابانية، وتنطلق منها لتعانق ثقافات أخرى.
تتناول الرواية مسألة العجز عن تفسير الظواهر الحياتية، عبر حكايات إنسانية تحلم بالحلول، فالشخصيات الواردة في حالة هروب من تصوراتها التي ورثوها أو رسخت في أذهانهم، بحثاً عن تصورات جديدة، وهنا نجد الرواية تتحشد بالأفكار الفلسفية، دون أن تؤسس أو تنتمي إلى فلسفة بعينها.