الفكرة أقوى من العاطفة، أقوى من الرابطة الإنسانية بكل تجلياتها، هذا ما كان، وسيكون محل جدل وتساؤل دائم في تاريخ البشرية المعروف: لماذا حين نختلف نحن البشر على فكرة معينة ننسى أننا نرتبط بأشياء وعلاقات مشتركة من الممكن أن تجعل الاختلاف ينزوي ويتضاءل حجمه إلى حد أنه يصبح شيئاً بلا جدوى؟
يذكر تاريخ الفكر المعاصر عدة نماذج من الاختلافات الفكرية التي أدت لنوع من المواجهة (باردة كانت أم حادة)، وأن وسائل الإعلام أحياناً غذت تلك الاختلافات، وجعلت منها مادة صحفية تلهب ترقب وانتظار القراء المتحفزين لمعرفة ما يمكن أن تؤول إليه تلك الاختلافات بين مشاهير المفكرين.
من بينها ذلك الافتراق والاختلاف الذي حصل بين الصديقين المفكرين المشهورين ألبير كامو، وجان بول سارتر.
لم تكن صداقة الرجلين أصلاً مبنية على تشابه في الظروف الشخصية، فكامو كان ذلك الشاب القادم من وسط فقير، وسارتر كان ينتمي للطبقات العليا من المجتمع الفرنسي، لكنهما التقيا في ظروف خاصة كانت فيها باريس تحت وطأة الاحتلال النازي، ثم توطدت صداقتهما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى درجة أن سارتر كتب حينها تحت عنوان «كيف أحببناك حينها»، مشيداً بمستوى الحب والتقارب بينهما، ومبرزا المكانة التي يحظى بها كامو عنده.
ورغم كل ذلك، ورغم التقارب الفكري بشكل عام بينهما، إلا أن الخلاف حدث وتفاقم بطريقة لم تستوعبه مناقشة هادئة تحصره في مداه وتتجاوزه، بل تعدى إلى فضاءات عمومية، وأصبح حديث الناس والإعلام في تلك الفترة.
حدث الخلاف حين كتب كامو كتابه «الثائر» وأدان من خلاله فكرة العنف الثوري، وشدد على أن العنف لا يمكن أن يستخدم إلا في ظروف قصوى واستثنائية، واعتبر أن استخدام ما يسمى بالعنف الثوري لدفع التاريخ في اتجاه ما يريده الثوار هو وهم، واستبداد، وخيانة.
لم يرُقْ الأمر لسارتر بالطبع، وجاهر برفضه لكتاب الثائر من خلال مراجعة نقدية له في مجلة «الأزمنة المعاصرة» التي كان يشرف على تحريرها، ومن ثم اشتعل الخلاف، وغذته كما أسلفنا وسائل الإعلام، مثل صحيفتي «لوموند» و«لوبسرفاتور» الفرنسيتين، وبات الأمر مصنفاً بشكل ما ضمن خانة «العداء الفكري».
ثمة دوماً ما يمكن قوله في مثل حالات الخلاف الفكري، وخصوصاً حين نستحضر بشكل متواصل مقولة «الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية»، لكن ثمة أيضاً دوماً في حياتنا خرق لكل تلك القواعد الأنيقة «أخلاقياً»، ربما الاستثناءات الوحيدة في كل ذلك هي لأولئك الذين ينجحون باستمرار في محاولة تفهم وجهة نظر الآخر وحقه في الاختلاف وتوطين أنفسهم عليه.
pechike@gmail.com