في زيارتي للعاصمة النمساوية (فيينا) تذكرت رسالة الوداع التي كتبها روائي النمسا (شتيفان تسفايغ) صاحب روايات (24 ساعة في حياة امرأة، والشفقة الخطيرة وغيرها) قبل انتحاره عام 1942 بسبب فجيعته من انهيار السلام ورفضه للحروب التي خيبت آماله وجعلته لا يرى في المستقبل بصيص أمل.
وكان (تسفايغ) الذي اشتهر بكشفه أستار حياة مشاهير الأدباء أمثال تولستوي، وديستوفسكي وبلزاك، قد ترك سيرته الذاتية «عالم الأمس» التي صدرت بعد موته وكأنه فضل كشف أسراره بنفسه وترسم قصة انتحاره رغم وجعه حكاية رومانسية بإقدامه هو وزوجته الثانية على ابتلاع العشرات من الأقراص المنومة بعد إعطاء كلبه جرعته من المنومات ورقدا متعانقين ولم يستيقظا بعد ذلك العناق الطويل أبداً.
كنت أفكر ب (تسفايغ) المتسرع بالانتحار، كلما مررت أمام تلك المكتبات المنتشرة في العاصمة الأنيقة بين كل محل ومحل تقريباً، عارضة الكتب على نوافذها كما تعرض أجمل الجواهر والأزياء في أماكن أخرى، و«فيينا» اشتهرت بمكتباتها الخشبية الأنيقة التي انتشرت في شوارعها عام 2013 بتصاميم مختلفة وألوان جذابة تتناسب مع كل شارع تتواجد فيه بمبادرة من الفنان النمساوي (فران جراسنر) الذي أطلق تلك الصناديق يومها لعرض صنوف الكتب المختلفة تشجيعاً للقراءة بين مواطني بلاده.
ورغم تخوف البعض من فشل المبادرة في زمن الجفوة بين القراء والكتب، إلا أن المواطنين النمساويين هرعوا حينها للمساهمة في التبرع بأنواع الكتب للراغبين في الاستعارة المجانية. وأصبح في إمكان أي شخص يسكن أو يزور مدينة فيينا استعارة ما يرغب من الكتب مجاناً، محولين فكرة الصناديق الصغيرة والأنيقة إلى مكتبات صغيرة تحوي كافة أنواع الكتب والمجلات المتنوعة من دون أهداف تجارية أو حتى إعلانات لجذب القراء.
وتمكنت الصناديق الخشبية المصممة بجمالية فريدة من جذب المواطنين للإقبال على القراءة والتبرع بالكتب بكل شغف ومن دون رقابة ولا إجراءات طويلة، واندحرت مخاوف مؤيدي المبادرة من تعرض المكتبات لأعمال تخريبية من قبل البعض، لأن التجربة نجحت وأثبتت مدى احترام الناس للفكرة وللكتاب بحرصهم على الكتب وتعاملهم معها بجدية تامة.
لو كان «تسفايغ» حياً، لأسعدته رؤية انتشار المكتبات والكتب والقراء المقبلين على القراءة، ما يدل على وجود السلام بحضور الكتب والزبائن الدائمين الذين يستعيرونها ويقدمون مقابلها كتباً أخرى تجدد محتواها بشكل أسبوعي، مبرهنة على اهتمام الجميع بالقراءة ومدعومة بالإقبال الشديد على التبرع بالكتب والاستعارة منها. لم تجذب هذه المكتبات الشباب فقط بل حتى كبار السن، والذين بدورهم تبرعوا بكتبهم رغم ما يبذلونه من جهد في حمل حقائبهم الثقيلة المليئة بالكتب لتزويد الصناديق التي تستقبل حوالي 20 قارئاً يومياً كما ذكر في خبر نجاح المبادرة يومها.
لو كان «تسفايغ» حياً لرغب في حياة أطول.