وربما مثلت «الأيديولوجيا» واحدة من المفاهيم التي اعتنى بها المفكرون والمثقفون، في كونها شكلت ثقلاً عظيماً كان لابد من التخلي عنه أو تخفيف حمولته، واليوم يعمل كثير من هؤلاء على مراجعة هذا المفهوم، الذي ظنه البعض سبباً أساسياً في أن تتحول كثير من الأفكار إلى عصى في يد الشيطان، وربما هي الأيديولوجيا كذلك إذ أريد لها أن تتناقض مع المعرفة، لكن بطبيعة الحل فإن الأيديولوجيا هي حقيقة، وحتى الذين رفضوها كانوا يؤسسون لأيديولوجيا جديدة، فلا مفر من المنظومة الأيديولوجية التي تشكل لدى الإنسان معايير قيمية ومرجعية أخلاقية وسلوكية في سياق موقفه من الحياة.
غير أن الحقيقة أيضاً تقول: إن الثقل الأيديولوجي قد أورثنا أنظمة شمولية في السياسة، انتزعت الأفكار من سياقها، ومددتها على «سرير بروكوست» وأخضعتها لجبرية قاسية، فتشوهت الأفكار التي أسست من قبل مفكرين وفلاسفة، فتحولت بالفعل إلى أيديولوجيا منغلقة متناقضة مع المعرفة، بالتالي هي بالضرورة حاضنة للتعصب ومقصية للاختلاف تدعي بالفعل امتلاك الحقيقة المطلقة، وعندما صعدت بكل هذه الحمولة الثقيلة إلى الحكم وسادت سياسياً، قامت باستخدام أدوات الحكم والسلطة، وهنا تكمن الخطورة، في فرض قناعات فكرية أحادية، فكان اللجوء إلى العنف تجاه المختلف، بل واختلاق هذا المختلف اختلاقاَ وتخيله في بعض الأحيان، لتتحول حياة الشعوب إلى جحيم مطلق.
إن الحاجة الآن تبدو متوفرة وضرورية، لإسهام هؤلاء المثقفين «المنفلتين» من الأيديولوجيا الصماء من أجل بناء مشروعات فكرية، أو مراجعة تلك المشاريع القديمة وإرجاعها إلى أصولها التي أنشأتها، وخلق حوار معها يسهم في أن تقبل الانفتاح والتجديد والديموقراطية، لتتفق مع الحاجة الإنسانية والمتغيرات التي يدفع بها الواقع، أن يتسلح هؤلاء بالنقد فعلاً تجاه أفكارهم التي حملوها، وأن يعلنوا عن مسار جديد لها يسع الجميع، وتشكل حداً لظواهر التعصب للفكرة التي لا ترى سواها حقيقة، ويبدو أن الحاجة اليوم لأفكار تنقذ تلك الأفكار الإنسانية التي أسيء إليها ماثلة جداً، بعد فشل المشاريع الكبرى وبعد أن تحول الفكر السائد اليوم هو الآخر إلى أيديولوجيا أشد وطأة من تلك التي سادت، وهذا أيضاً يتطلب وعياً جديداً، يخدم العالم والإنسانية.
علاء الدين محمود
alaamhud33@gmail.com