يبدو أن وصف المفكر والفيلسوف الأمريكي تشومسكي، المولود في عام 1928م بالتمرد لا ينفصل عن حمله للقب الفيلسوف، فالفلسفة هي التمرد، هي الموقف المختلف من الحياة، الرافض للمتوفر والسائد من المعارف والباحث عن اكتشافات جديدة، ولئن كان هدف الفلاسفة هو اكتشاف العالم، فإن تشومسكي ينتسب إلى طبقة من الفلاسفة لا تكتفي فقط باكتشاف العالم، بل تدعو إلى تغييره، لتكون هذه النقطة هي الأكثر أهمية، إذ إنها تجعل المفكر في وضعية فاعلة مترجمة لقناعاته التي توصل إليها، ولتحقيق مفاهيمه التي أنتجها، وربما هذا ما جعل تشومسكي منذ البدايات في حالة تعارض وتصادم مع السلطة في بلده الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في الموقف من الحرب الفيتنامية والكورية، وهي الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة سيدة النظام العالمي الجديد، وصاحبة المشروع الذي يراد له أن يسود العالم فيما يعرف بالأمركة أي العيش على النمط الأمريكي.
اصطدم تشومسكي مع السائد السياسي في أمريكا في نظرته المختلفة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، إذ يرى أن هذا الحدث قد تم تضخيمه لأنه قد أصاب الغرب إذ جاء من خارجه، وتبدو هذه الوجهة متماهية مع تفكير الرجل المتصادمة مع الأفكار والتصورات التي كونها الغرب حول نفسه من سرديات كبرى صارت عقائد لا تمس، فهو هنا يقف على النقيض تماما من هذا النمط في التفكير الجامد والمقصي للآخر، ولفترة طويلة ظل تشومسكي يتمسك بهذا الموقف الناقد لسياسة الولايات المتحدة الخارجية.
يجلس تشومسكي على معارف كثيرة تشكلت لديه من خلال عمله واشتغاله بحقول معرفية مختلفة، فبالاضافة لكونه أستاذ لسانيات، ومشتغلا بالفلسفة، هو كذلك عالم في المنطق، إضافة إلى أنه عالم استعرافي أو إدراكي ، وصار كذلك عالما بالمنطق، إلى جانب نبوغه وتفوقه الكبير في مجالات التأريخ والنقد والسياسة، ولعل المحطة الأخيرة هذه - السياسة - قد وظف فيها تشومسكي كل العلوم التي اشتغل بها، فكانت تستند على رؤية معرفية وعلمية ثاقبة، حيث رفد المكتبة بمؤلفات هامة جداً في علم السياسة صارت مراجع هامة لا غنى عنها، وعرف تشومسكي كيساري ناقد للرأسمالية وللسياسة الأمريكية، خاصة السياسة الخارجية حتى أعتبر معارضاً سياسياً في الولايات المتحدة، عندما حمل على هذه السياسة متهما إياها بذات المعايير المزدوجة.
وفي مناظرة شهيرة مع الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو للتلفزيون الهولندي، والتي تحولت إلى كتاب، أبدى تشومسكي اهتماما ب«الاشتراكية التحررية»، وبالبحث عن المبدع والإبداع الحر بعيدا عن يد وتضييق المؤسسات الفاسدة والمتسلطة والمستبدة، وذلك من أجل تشكيل مجتمع سليم، وقد اتخذ تشومسكي موقفاً من الشموليات والاستبداد والقمع والنظام، وكل ما يقود إلى السيطرة الأوتوقراطية التي تنتج عبر الملكية الخاصة لرأس المال، أو قبضة الدولة وتحكمها في بعض جوانب الحياة الإنسانية، وهو يرفض ذلك حتى لو جاءت عبر المبررات الجاهزة التي تمد من وراء ستار الحاجة إلى الدعم والعيش.
من هنا نلمح فلسفة تشومسكي الرافضة للهيمنة، والجانحة نحو تفكيك الاستبداد ليتم تصنيفه كيساري من حيث موقفه السياسي.
ولئن عرف تشومسكي بأفكاره السياسية إلا أن المجال الذي برز فيه بقوة هو علم اللسانيات، ولعل أبرز المساهمات التي قدمها في هذا المجال هو فرضية أن نمذجة معرفة اللغة باستخدام النحو الشكلي محسوبة لصالح إنتاجية وإبداع اللغة، ومن أهم مقالاته وكتاباته في هذا المجال: البنى التركيبية أو التراكيب النحوية 1957، والبنية المنطقية للنظرية اللسانية 1975، وملامح النظرية التركيبية 1965، واللسانيات الديكارتية 1966، والأنماط الصوتية في اللغة الإنجليزية والمعرفة اللغوية: طبيعتها، أصولها واستخدامها، وكان لمؤلفاته في جميع العلوم التي طرقها الأثر الكبير.
علاء الدين محمود