المخرج من ترجمة رؤى الآخرين إلى الإبداع الذاتي

تقوم تجربة الإخراج المسرحي على امتزاج عناصر الأدب بفنون العرض الحي، بمعنى تضافر النص الدرامي والأداء التمثيلي وتشكيل الفراغ والموسيقى والضوء بشكل إرادي واعٍ، لإنتاج مجموعة من الدلالات والرموز والصور السمعية والبصرية، التي يمكن تفسيرها وفك رموزها وشفراتها من خلال إحالتها إلى مجمل الأفكار والعقائد التي يعتنقها المتفرج، ولما كانت هذه العناصر الممتزجة لا تملك قوة ذاتية تمكنها من التحول التلقائي من حالة السكون إلى حالة من الحياة والحركة، لذا كان لا بد من وجود شخصية تقف خلف هذه العناصر يناط بها تنظيم هذا الامتزاج ومعاييره، وصياغة التكوين العام للعرض، وقد أطلق على هذه الشخصية تعبير المخرج.
وإذا كان أقل مهامه تنسيق وتنظيم آليات العرض المسرحي فإن أكبر مهامه وأعقدها هو التفسير المبدع للعمل الفني، باعتباره القيادة الفكرية والفنية، إذ يعتمد العرض المسرحي في خطابه الأيديولوجي على التعبير الذاتي الصادر عن شخصية المخرج ومفهومه العام المعبر عن رؤيته للعالم والإنسان.
يوضح د. محمود أبو دومة، في كتابه «تحولات المشهد المسرحي.. الممثل والمخرج» إن المخرج مر بمراحل عديدة حتى وصل إلى الصورة التي نعرفه بها في القرن العشرين، غير أن هذا التطور الذي شهدته شخصية المخرج وانتقاله من مرحلة ترجمة وتجسيد النص المسرحي إلى مرحلة التفسير المبدع، لم يكن مصادفة، لكنه جاء كمحصلة لكثير من التراكمات التاريخية والحضارية على المستوى الكمي والكيفي، خاصة في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي. لقد توجه العقل الإنساني - نتيجة لتراكم المنجزات الفكرية والعلمية - إلى تأمل السلوك الإنساني على المستوى الجسدي والعقلي والروحي وتشابك علاقتهم بالواقع، في محاولة لتفسير مظاهر النشاط الاجتماعي وتحويله إلى نمط معرفي للسيطرة على التجربة الحياتية للإنسان، وقد تبلور هذا الاهتمام في صورة من النشاط الفني والأدبي، الذي اتخذ من الواقع مادة له من دون أن يسايره، بل أحياناً كان يناهضه ويتمرد عليه، أو يرفضه بشكل يمثل حركة لا تستقر، الأمر الذي طرح بشكل دائم صوراً ورموزاً لعلاقة الإنسان بواقعه، وقد احتاج هذا الطرح المتغير إلى وجود شخصية فنية يناط بها تفسير إبداعات الآخرين وتنظيمها، بل تتجلى موهبتها من خلال عرض وتفسير ما كتبه الآخرون من نصوص أدبية، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى المخرج المنفصل عن العمل الأدبي والذي يستطيع في الوقت نفسه أن يجسده على الخشبة دون أن يكون جزءاً من الصورة المسرحية .