«أن تدرك يعني أن تعاني»، الكلمات تدل على أن صاحبها قد خاض تجربة مهولة مع المعرفة، فعرف قدر الوعي والإدراك، كلحظة انعتاق أساسية من الجهل، نحو أن تشقى بما عرفت، وأن تشقى بما ستعرف، ولكن الفيلسوف اليوناني الكبير أرسطوطاليس «384 ق.م - 322 ق.م»، صاحب الكلمات، قد خاض تجربة المعاناة والمتعة في آن، فكان من الفلاسفة الذين أسسوا للمعرفة وشقوا للبشرية ذلك الطريق الطويل الممتد من عصور الظلمات إلى عصور نور المعرفة، وهو الفيلسوف الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لعلم المنطق، أي يعتبر واضعاً للمنطق الصوري، وهو فرع من المعرفة، ولأهمية ما قدمه في هذا الحقل، دان له الكثير من المفكرين المحدثين بالكثير خاصة فيما يتعلق بعلم المنطق إلى حد أن اعتبره الألماني كارل ماركس، أعظم مفكري العصور القديمة.
ويبدو ذلك منطقياً لكونه قد تتلمذ على يد الفيلسوف اليوناني الأكبر أفلاطون، وطور كثيراً من أطروحاته ثم أخيراً انتقد نظريته الخاصة بالصور المفارقة والمقصود بها «المثل»، ولئن كان أرسطو قد وسع كثيراً من المفاهيم الأفلاطونية إلا أنه لم يخرج كثيراً من أطروحات أفلاطون، فهو رغم هذا النقد إلا أنه ظل في ذات الأفكار و لم يتمكن من الخروج على مثالية أفلاطون تماماً، ففي البداية حمل أرسطو اعتقاداً في أن الحقيقة يمكن تحديدها بالعلاقة البسيطة بين الأفكار، غير أن ذلك النمط من التفكير لم يستمر كثيراً عند أرسطو، فقد تجلت له الحقائق المعرفية بشكل أكبر عقب أن استقل فكرياً ومعرفياً من سطوة أفلاطون، حينها ساعده ذلك الاستقلال على التراجع عن ذلك المفهوم المثالي، لينظر إلى الحقيقة في كونها ليست فقط قائمة على تطابق الفكر مع نفسه، بل مع خارجه، أي توافقه مع الأشياء والموجودات الخارجية، بالتالي مع العالم المادي أو الحسي.
يقول بعض الفلاسفة الماديين فيما بعد: إن أرسطو قد تأرجح بين المثالية والمادية، وربما ما قاد إلى ذلك الحكم هو التقارب الكبير مع أفلاطون، من ناحية والاقتراب من التفكير المادي في ذات الوقت، جهة أن أرسطو قد غلّب التفكير المنطقي المستند إلى التحليل، في لحظة ينطلق فيها مما هو محسوس، أي مما هو مادي، وذلك يبدو جلياً في منهجه، ليحتفظ أرسطو بالتالي لنفسه ببصمة خاصة في تفكيره ومنطقه، غير أن أرسطو قد حاول أن يضع طابعاً علمياً على أفكاره عبر هذا المنهج الذي اتخذه، والذي يستند إلى التجربة والملاحظة والتحليل، وكذلك جنوحه نحو الواقعية، والتي تبدو واضحة من خلال محاولاته الأولى في الفلسفة، ويمكن ملاحظتها حتى في الفلسفة الأولى، إِذ انطلق من العالم الطبيعي، مميزاً علله التي تتحكم فيه، ومن ثم ارتقى نحو العالم غير المادي لدراسة المبادئ المطلقة للوجود.
ولعل من أنصع الأفكار التي جعلت ماركس يجعل أرسطو فيلسوف عصوره القديمة هي النظر إلى التناقضات والأضداد، أو الانقلاب الكبير في الفلسفة والذي استمده من معلمه أفلاطون، فهو قد تعرف بشكل كبير إلى الفروق الأساسية بين التناقض والأضداد، والتي تقوم على كون أن الخطأ والحقيقة صفتان من صفات الأحكام، بالتالي يمكن تمييز التناقض بينهما، باعتباره الشكل الوحيد الذي يمكن تمييزه بالحكم، وذلك وفق علاقة طبيعية تتمثل في أنه إذا كان أحد الطرفين حقيقياً، فسيكون الآخر على العكس من ذلك خاطئاً أو زائفاً، ومن تلك الحقائق يرى أرسطو أن أخطاء الفلاسفة الذين سبقوه وتناقضاتهم تعود جميعها إِلى عجزهم عن تمييز المفاهيم المختلفة ل «الموجود» من التعدد الذي يتضمنه تصوّر الموجود نفسه.
علاء الدين محمود