حين طرح محمود درويش السؤال عن ماهية ذاته: من أنا، في بداية رائعته «لاعب النرد»، كان متماهياً ربما مع الفرضية التي يطرحها «يوهان هوتسينغا» عن «ديناميكية اللعب في الحضارات والثقافات الإنسانية».
اللعب عند درويش في قصيدته الشهيرة تلك هو تعبير ثقافي وجودي تماماً كما هو عند هوتسينغا، الذي بدأ اهتمامه بعلاقة الثقافة باللعب منذ سنة 1903 حين أكمل دراسته آنذاك في تخصص الاستشراق، ودراسات اللغة السنسكريتية، ثم عاد ليشير إلى الترابط بين الثقافة واللعب في خطابه حين تولى رئاسة جامعة ليدن سنة 1933.
وفي سنة 1938 أنهى هوتسينغا الطبعة الأولى من كتابه هذا الذي بين أيدينا «ديناميكية اللعب في الثقافات والحضارات الإنسانية»، ثم بعدها بسبع سنوات رحل عن الدنيا بعد ما قضى شتاءه الأخير منعزلاً داخل أبرشية في شرق هولندا.
ترجم الكتاب الدكتور صديق محمد جوهر، وصدر عن مشروع كلمة للترجمة في 566 صفحة من القطع المتوسط.
يقع الكتاب في مقدمة للكتاب وتوطئة للمؤلف، واثني عشر فصلاً، بدأت بالطبيعة وأهمية اللعب كظاهرة ثقافية، ثم تناولت مفهوم اللعب من الناحية اللغوية، وتلا ذلك دور المسابقات والألعاب في التطور الحضاري، وناقش العلاقة بين اللعب والقانون، واللعب والحرب، واللعب والمعرفة، واللعب والشعر، وتناول في الفصل الثامن عناصر تكوين الأسطورة، وقوالب اللعب في الفلسفة، وأنماط اللعب في الفن، ليختتم بالفصل الثاني عشر تحت عنوان: عنصر اللعب في الحضارة المعاصرة. في كل فصول الكتاب يؤسس يوهان هوتسينغا لنظرية مضمونها أن اللعب هو أحد المكونات الرئيسية للأحاسيس الإنسانية، ويشير إليه باعتباره «نشاطاً تفاعلياً يتواصل على نحو مطرد في سياق زماني ومكاني محدد، وفي إطار تتابعي وفق قواعد حرة وغير ملزمة، وليس لها علاقة بتحقيق المنافع المادية».
ويرى هوتسينغا أن الناس قد يخدعون فيتصورون أن اللعب ليس إلا نوعاً من الرياضة الترفيهية تمارسه طبقة مدللة، وأنهم بالتالي يقللون عندئذ من أهمية اللعب، وقيمته، وتأثيره، بينما هو في الحقيقة قد يمثل أقصى درجات الجدية والاهتمام.
ويؤكد هوتسينغا وهو الدارس لعدة لغات حية وقديمة، أنه من الصعوبة بمكان إيجاد مرادف يكون نقيضاً لكلمة «اللعب»، وأن ذلك يعد دليلاً مهماً على أن اللعب يعتبر عنصراً فعالاً، ديناميكياً، يتغلغل في ثنايا حياتنا ويتفاعل مع كل مكونات السلوك الحضاري ومنظومة العلاقات الاجتماعية.
إن اللعب أو - القيام بأدوار حقيقية على مسرح الحياة- يعد أهم ركائز الحضارة، ومن هنا يؤسس لعمق مفاهيمي واضح في علاقة اللعب بصناعة الحضارة وتراكميتها.
وتبدو مقاربة هوتسينغا لموضوع اللعب في كتابه هذا، معتمدة بالدرجة الأولى على علم اللغويات، فهو يلفت الانتباه إلى أن العديد من اللغات تتشابك وتتداخل وتتشابه، في تعريف اللعب بأنه مجموعة من المباريات أو المنافسات أو الأحداث ذات الطابع الطقوسي.
وقد اتبع هوتسينغا الطريقة الجدلية الديالكتيكية في تحليل الخطاب الفلسفي، وتوصل من خلال ذلك إلى أن غريزة اللعب ضرورية وأساسية من أجل استيعاب المعارف، وأن الإنسان يمارس اللعب دائماً أثناء بحثه عن المعرفة. ويقول هوتسينغا: إن اللعب كان له تأثير كبير على تطور الشعر مثلاً، ونقله من حالة عشوائية إلى القواعد العروضية الجادة، ثم التحرر من تلك القواعد الشعرية إذن بحسب هوتسينغا نوع من اللعب قد يكون أعظم لعبة اخترعها الإنسان.
يمضي هوتسينغا في السياق التأسيسي نفسه لمفهوم اللعب بربطه بأنماط الثقافة الجادة، فيرى أن الأدب بأسره نوع من اللعب، لأن اللغة فيه تكون متحررة ومستقلة ومنطلقة، حيث تتفاعل الكلمات في إطار معروف وفي ظل قواعد وتقاليد ليست لها علاقة بالمنافع الذاتية.
ويعتبر هوتسينغا أيضاً أن الفن بجميع فروعه ليس إلا لعباً، ويذهب إلى أن الموسيقى تمثل تجسيداً للفن باعتبارها ذروة اللعب، بينما تمثل الفنون التشكيلية عند هوتسينغا مستويات أقل من اللعب.
هكذا إذن يقودنا يوهان هوتسينغا بسلاسة فكرية إلى افتراض أن الحضارة ككل نشأت وتطورت لأنها جزء أصيل من اللعب، وأنها استمرت في لعبها حتى قيام الثورة الصناعية في أوروبا. يخلص هوتسينغا إلى أنه بعد دخول أوروبا مرحلة الثورة الصناعية تم تجريد الإنسان من كل ما هو لعب، وأطلق العنان له ليشيد عالماً صناعياً مزيفاً في ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب، ويومئذ انتهت سيمفونية اللعب، وعزف الإنسان لحنه الشتوي الأخير، وتوقفت حوريات البحر الجميلة عن الرقص مع الرعاة. تلك النهاية المأساوية التي عبر عنها هوتسينغا في كتابه «ديناميكية اللعب»، اعتبرت من قبل بعض النقاد لكتابه هذا، تعبيراً مفرطاً من هوتسينغا في الهجوم على عصره، وحدت بالمؤرخ الهولندي بيتر جيل إلى أن يصف كتاب «ديناميكية اللعب»، بأنه «دراسة رائعة ولكنه بني على أفكار خاطئة مرتجلة».
ويعتقد جيل أن كتاب هوتسينغا يمثل الخاتمة الحتمية للاتجاهات والأفكار التي شكلت عالمه كمؤرخ وناقد ثقافي.
الكتاب بشكل عام قدم دراسة تأويلية تبتعد عن التعريفات التقليدية للحضارة، واستخدم لغة سلسلة تبتعد عن الجمل الاستطرادية الطويلة التي تفقد القارئ العادي تركيزه على المضمون، إنه بعبارة بسيطة كتاب مختلف يستحق القراءة.
الشارقة: محمدو لحبيب