إن العودةَ مِراراً لقصائدِ رينيه كارل فيلهلم يوهان يوزيف ماريا رايلكة الشهير ب«راينر ماريا رايلكة»، ُتفسِرُها إرادةُ البحثِ عن ترياق للألم والبؤس، تلك هي اللحظة الإنسانية التي تدفعنا لقراءة أشعاره. إن العالم اليوم مضطرب، ويشهد تراجعاً كبيراً عن مسار مكتشفات الحضارة والإنسانية في توقها نحو المعرفة والحداثة. ليخلف ذلك دماراً إنسانياً متمثلاً في انتشار قيم الربح، والتطرف والعنصرية وكراهية الآخر، على نحو ما رأينا في أزمة اللاجئين التي أفرزتها الحروب في كثير من دول العالم، وكيف أن العالم المتحضر قد أغلق حدوده، وانصرف بعض مثقفيه إلى الحديث عن الاختلاف بين قيمهم وأخلاق القادمين.
هذا الواقع الذي جعل الجميع يديرون ظهورهم للفنون والأدب، منشغلين بأنفُسِهِم وأمرِ نجاتهِم، فالعالم على شفا كارثة إنسانية، والجميع يتخوف من المآلات. ولكن في ذات الوقت مازال هنالك من يهتم بالجمال والإنسانية ويطورون أطروحة للخلاص عبر الجمال والفنون والأدب، وربما لن يكون هنالك غير الفنون والأدب وكلمات الشعراء دواء وشفاء للأنفس في ظل التقلبات التي يشهدها العالم حالياً، تلك التي دفع البؤس بها إلى أقصى الأحزان، لتعم موجة عظيمة من الحزن والألم والخوف من المصائر الغامضة.
الأدب هو ذلك الترياق الحقيقي للألم، هو السبيل إلى إعادة صياغة الكون عبر بيان جديد، يجول فيه شبح جميل للحب، وهنا بالتحديد تظهر نصوص رايلكة السعيدة، التي يفرد لها شراع الحب ليبحر بالبشرية إلى عوالم إنسانية جميلة، فهو يقبل على العالم مستهدفاً أعماقه، لجعل الحب هو الأساس الذي ينبغي أن تنطلق منه البشرية في أفعالها وأعمالها.
إن رايلكة ليس منفصلاً عن واقعه، لكنه يرى أن ثقل الواقع المادي هو عارض في سياق بحث البشرية عن الواقع الحقيقي، وهو العالم الروحي، هو يريد أن يهُدي هذا الربيع الذي يملأ نصوص قصائده إلى العالم.
مع كلمات رايلكة نتعلم أن نصبح بشراً، أن ننحاز بشكل قاطع إلى إنسانيتنا التي «اغتربنا» عنها بفعل الحروب والإيديولوجيات التي عمت العالم، فأفسدته وهي في طريقها للقضاء عليه وتدميره، فما أحوجنا إلى تلك الكلمات الشاعرية التي تستنهض في دواخلنا قيم الحب والخير والجمال، فرايلكة يحمل يقيناً أن كل نفس بها النور، وأن الحب يجعله يخرج ليعانق العالم.
أشعار رايلكة المفرطة في الرومانسية، تهدي الحب للجميع.. وتجعل من هذا الحب ترياقاً لجنون العالم، كلمات عذبة تخترق الفؤاد والعاطفة: «ولكن كلَّ ما يلامسنا، أنا وأنت،/ يجرفنا معاً كما لو بقوس واحدة/ صانعًا من وترين صوتًا واحدًا./ ترى أوتار أية آلة نحن؟/ وأيُّ عازف كمان يحضننا بين يديه/ يا أعذب الأغاني».
alaamhud33@gmail.com