دراسة فلسفات الشرق القديمة شغفت العالم بأسره، خاصة في الغرب، الذي يرى في الشرق منبعاً للحكمة، والحكايات الغامضة والأساطير، وسيادة التأمل والروحانيات. غاص كثير من المفكرين في دهاليز الحضارات والأديان والفلسفات التي احتضنها الشرق، ولعل الفلسفة البوذية بشكل عام أخذت نصيباً وافراً من اهتمام الباحثين، فهي تعتبر من الفلسفات الكبرى، التي تأسست على تعاليم بوذا «المستنير»، ونشأت في شمالي الهند، وتدريجياً انتشرت في أنحاء آسيا، التيبت، فسريلانكا، ثم الصين، ومنغوليا، وكوريا، واليابان. وهنا لا بد من فهم أن بوذا عبر تعاليمه، لم يناد بديانة أو معتقد، لكنه وضع أسس فلسفة أخلاقية حياتية وتطبيقية، وهذه الفلسفة هي التي انتجت كافة الاتجاهات البوذية التي ظهرت فيما بعد أو معظمها.
ربما لم يهتم أهل الشرق أنفسهم في التعرف إلى حضارات بعضهم بعضاً، واحتفظت كل منها بمسافة لنفسها، مستعصمة بما تمتلك من مواريث وقيم أخلاقية، وحكم وأديان، مستغنية عن البحث والانفتاح على قيم وموروثات جيرانها، فالشرق المسلم والمسيحي مثلاً لم يتحمس كثيراً للتعرف إلى ثقافة الآخر البوذي، والكونفوشيوسي، والطاوي، أو غيرها من أديان وفلسفات.
يعد كتاب «فلسفة الزن.. رحلة في عالم الحكمة»، للكاتب الصحفي جان جوك تولا، الصادر عن مشروع كلمة من ترجمة ثريا إقبال، من المؤلفات المهمة التي تُعرف بفلسفة الزن البوذية، وتغوص عميقاً في دهاليز هذه الفلسفة. حملت مقدمة الكتاب محاولات للإحاطة بمعنى كلمة «زن»، التي أصبحت شائعة في المعجم العالمي، وهي محاولة لتخليص الكلمة من الكثير من الغموض الذي لحق بها وثبت في أذهان الكثيرين. يعرف تولا كلمة «زن»، بأنها تعني التأمل والتفكر، وهي ممارسة نابعة من بلاد الهند، وقد انتشرت في البلدان المجاورة لتصل إلى اليابان في صيغة «الزِنْ»، وعلى الرغم من أن المؤلف أرجع الزن بأصوله إلى الهند، إلا أنه يرى أن تاريخ الزن بدأ مع البوذية، فهو مشتبك بتعاليمها. والمعروف أن هذه التعاليم قد لقيت رواجاً، وتحولت إلى ثورة روحية كبيرة في مجال المعرفة والحب، الذي هو جوهر تعاليم البوذية. إن الممارسة البوذية المتمثلة في الزن، تدعو إلى الوعي بالذات تبعاً لتعاليم متواترة تتجاوز ما يقوله الشيخ لمريده من كلمات تترسخ عبر التعليم والتلقين، ويطالب بمعرفة ما وراء الكلمات، فهي ممارسة تمرّ من قلب إلى آخر.
وعبر 6 فصول وملحقات يأخذنا الكتاب إلى عوالم تطور هذه الفلسفة، وتحوّلاتها سواء في الصين، أو اليابان، أو كوريا، ويعدد شخصياتها النابغة، وطقوسها، وطرائفها، كما يحلل انتشارها في البلدان الأوروبية، وأثرها على الفنون والموسيقى.
ويشير المؤلف إلى طريقة الزن، ويرى أنها تتجلى في عدة معانٍ، فهي التأمل مع البقاء على أرض الواقع، والتركيز على المسار، وعدم المقابلة بين الخير والشر، وبين المبتذل والرفيع، وتفضيل مدح البساطة، والإدراك الفطري للعالم.
تعلم منهجية الزن الممارسين احترام الطبيعة، والكائنات الحية، والتحرر من المادة، والتخلي عن الرغبات، والتجرد من الادعاءات النرجسية، فالمذهب البوذي عموماً يعلم اتباعه أن الحياة نهر مضطرب تجرف مياهه العكرة مزيجاً من العواطف والجهالة، لكن التخلي عما هو زائف لا يكفي لإدراك ما هو صحيح، وحتى إذا قاد إليه فإن الإيمان به يصبح نتاج وهم جديد.
ويقدم الكتاب توضيحاً لأصول الزن البوذية، عندما يرجعها إلى تعاليم بوذا جوتاما، الذي تحيط به مجموعة من الأساطير والعجائب، والذي يسمى سيدهارتا جوتاما، ويدعى كذلك ساكيا موني، وهو حكيم عشيرة «ساكيا» التي عاشت في سفوح جبال همالايا، في الشمال الشرقي للهند. ولد في منتصف القرن السادس قبل الميلاد. وعلى الرغم من الرغد والمكانة الاجتماعية التي حظي بهما، إلا أنه تخلى عن كل ذلك ناشداً الزهد والتقشف، وألزم نفسه بحياة شديدة القسوة من أجل المعرفة، لكنه اكتشف أن الحياة التي سلكها قاسية ومتطرفة، فاختار أن يكون معتدلاً، فقد تساوت عنده حياة الصوم من حيث تطرفها، مع حياة الملذات، وتحت شجرة تين أدرك بالفطرة الحقيقة ذاته، وبعد سبعة أيام توصل إلى اليقظة التي جعلت منه «بوذا»؛ أي المتيقظ.
يستعرض تولا جوهر التعليم البوذي المؤلّف من أربعة مبادئ نبيلة، هي التي تتناول حقيقة الألم، وأصل الألم، وإزالة الألم، وطريق إيقاف الألم. فالمبدأ الأول يقول إن كل شيء ألم، فهو معطى في قلب الوجود، وهو علة الموت. أما مبدأ أصل الألم فهو العطش للعالم والرغبة في الوجود، والعطش والجهل يولدان جذور الشر، أما إزالة الألم، فهو المبدأ المتعلق بالانعتاق المطلق، ويأتي المبدأ الرابع ليشير إلى مفهوم الخلاص.
إن هذا الكتاب هو معين للقارئ العربي كي يدخل إلى عوالم وقلب أكبر الحضارات التي تجاوره، والتي ظل بعيداً وغائباً عن فهم جوهرها قروناً طويلة، خاصة ما يتعلق بالبوذية، وبفلسفة الزّن على وجه التحديد، ليصل إلى معرفة متكاملة بها، وبمعلّميها، والظروف التي نشأت فيها وأنتجتها.
الشارقة: علاء الدين محمود