Quantcast
Channel: صحيفة الخليج | ثقافة
Viewing all articles
Browse latest Browse all 18097

«أكون أو لا أكون»

$
0
0
محمد أبو عرب

كيف يمكن لعبارة تتكون من أربع مفردات أن تتحول إلى صورة مكثفة لمنجز أديب تجاوز تاريخ الثقافة الغربية وتحول إلى أديب كوني بامتياز؟ وكيف لتلك العبارة أن تشكل محور عملٍ مسرحي يمتد على أربع ساعات متواصلة، تدور فيه صراعات حادة، وترتكب فيه جرائم قتل، ونزاعات كبيرة.
وما السر وراء هذه العبارة الحاذقة، المتخففة من كل أشكال البلاغة اللغوية؟ هل يكمن سرها في التوقيت الذي قيلت فيه؟ أم في المعنى الذي أشارت إليه، أم الكثافة الدلالية التي حملتها؟
أسئلة كثيرة تفرضها العبارة الشهيرة التي أطلقها الأديب الإنجليزي المعروف شكسبير في مسرحيته هاملت: «أكون أو لا أكون؟» فهي لا تشير إلى شكسبير ذاته، ولا حتى منجزه الأديب الغزير وحسب، وإنما تكاد تشرع النافذة على تاريخ الأدب الغربي في عصر النهضة، وأثره في مجمل الأدب الإنساني بصورة عامة.
لا ترتبط تلك العبارة بمن قرأ هاملت، أو من يعرف أعمال شكسبير، أو حتى من له علاقة في الأدب والفن، فهي تتعدى ذلك للحد الذي ترد على لسان عامة الناس بوصفها حكمة كونية، هبطت على البشر، وأصابت سر وجودهم، وحقيقتهم على الأرض.
لذلك يحق للمتأمل في نتاج شكسبير تجاوز آلاف المؤلفات التي كتبت حول تاريخه الشخصي، وحللت نتاجه الأدبي المسرحي، والشعري على حد سواء، والوقوف عند تاريخ تلك العبارة، والعمل على استنطاق دلالاتها العميقة، التي تنفلت من سياق المسرحية لتتحول إلى سؤال وجود فلسفي يرتبط جذرياً بتاريخ المماحكات الذهنية التي خاضها الفلاسفة تاريخياً.
قد يتفاجأ الكثير من الذين تعلقوا بشكسبير، وافتتنوا بسؤاله العبقري أن تلك العبارة ليست له، وإنما مقتبسة من حكاية بطولية للمؤرخ والشاعر ساكسو غراماتيكوس، الذي يعد رائد الأدب الدنماركي، فهو مؤلف كتاب «الأعمال الدنماركية» وهو أهم وأول عمل عن تاريخ هذا البلد.
يكشف الباحث في سيرة «الأعمال الدنماركية» أنها أعمال مكتوبة باللاتينية الفصيحة، الأمر الذي أعطى غراماتيكوس لقب «الفصيح»، وجاءت الأعمال في ستة عشر جزءاً تحكي التسعة الأولى منها عن 60 ملكاً دنماركياً أسطورياً من الأزمان الأسطورية إلى عام 950، وتعتمد في نسيجها على الحكايات القديمة، والملاحم، وسجلات الآيسلنديين، بالإضافة إلى الأساطير سواء عن آلهة محليين وملوك قدماء وأبطال غرباء، منهم: بالدر، وهوثر، والأغراب الذين أدخلوا في التاريخ الدنماركي.
يشير ذلك إلى المرجعيات المعرفية التي كان يستند إليها شكسبير في كتابة أعماله الأدبية، ويكشف النقاب عن الأجواء الأدبية التي تأثر بها، وشكلت فضاء أعماله المسرحية، فتاريخ ستين ملكاً من ملوك الدنمارك قد يكون أساساً اتكأ عليه شكسبير في معالجة حكاية الملك الدنماركي الذي يخوض ابنه هاملت صراعاً لينتقم لمقتله.
لا يشكل ذلك إجابة عن سر عبارة «أكون أو لا أكون» بقدر ما يفتح نافذة على سيرتها الأدبية القديمة، فالبحث في سرها يحتاج إلى حفر عميق في تكوين العبارة، والدلالة التي أصابتها، فهي بقدر قدرتها على الاتساع لتصبح سؤالاً وجودياً بالكامل، تضيق لتصبح سؤال الفعل في اللحظة، والموقف وحسب.
يكمن سر العبارة في محاور عديدة بنيت عليها، أولاً العلاقة التقابلية بين خيارين كلاهما يحذف الآخر، ويلغي حضوره، فلا وجود لخيار ثالث يمكنه أن يشكل منفذاً بين الخيارين، وثانياً مقدار الشجاعة التي يحتاج إليها قائل العبارة ومتبنيها، فالخياران اللذان تضعهما العبارة يقابلان الموت والحياة، وثالثاً تأثير فعل الكينونة، وتاريخ الجهد الذهني المبذول في فهمه، وهذا ما يعد المحور الأكثر قوة في بناء العبارة.
يتجلى كل ذلك في تاريخ فعل الكينونة الفلسفي واللاهوتي، والعلمي، فمن يعود إلى صورة الفعل في مثل هذه المنظومة يجد أن الفعل كان الطاقة الأولى التي تشعبت منها أشكال وجودنا وتاريخنا البشري، ويتجلى ذلك في الثقافة الإسلامية بالفعل «كن».
مقابل ذلك، ظل الفلاسفة في حالة مناكفة حادة لهذا الفعل، وشكلت مسيرة بحثهم في الإجابة عنه تيارات فلسفية عديدة، منها ما تجاوز المادة إلى ما وراءها، ومنها من آمن بالوجود بوصفه مادة ملموسة في الحواس، إلى جانب الذين وجدوا في العمليات الذهنية حقيقة يمكن من خلالها تأكيد كينونتنا، فصار التفكير فعلاً مقابلاً للوجود.
سؤال عميق لم تنتهِ البشرية من الإجابة عنه، رغم حجم الاجتهادات اللاهوتية، والفلسفية، والعلمية، فظل عالقاً حتى اليوم، لتكون بذلك عبارة هاملت معلقة في التاريخ البشري منذ الانفجار العظيم حتى اليوم.

Abu.arab89@yahoo.com


Viewing all articles
Browse latest Browse all 18097

Trending Articles