أكد عدد من الأدباء أن الألم له أشكال وأنواع ومستويات، وكلما اشتد ارتد الإنسان إلى ذاته ليناجيها أو يوبخها أو يدينها أو يستخلص الحكمة والتجربة والعبرة، فالألم هو المعلم الأكبر الذي يفجر طاقات المبدع، وهو المحرض الحقيقي للإبداع. موضحين أن الإحساس بالألم فن، والتعبير عن الألم في تجربة إبداعية مُغامرة تتطلَّب شجاعة فائقة، كما أن الكثير من المبدعين القدامى قد أبهروا العالم؛ بسبب تسخيرهم لآلامهم في الكتابة وتوظيفها بشكل عبقري.
قالت الكاتبة د. فاطمة حمد المزروعي عضو المجلس الوطني سابقاً: «ربما يكون الألم هو المعلم الأكبر، الذي يفجر طاقات المبدع؛ لأنه يولد مشاعر قوية جداً ما بين حزن وندم وفقد ووجع؛ تجعل الشخص يفكر فيما جرى له من ألم نفسي أو جسدي؛ وآثار ذلك تختلف حسب نفسية المرء فقد يفجر فيه طاقاته، فينظر للعالم نظرة كلية؛ ليستخلص حكمة عميقة مما جرى، محاولاً التعبير عن ذلك من خلال التجديد في الشكل الفني أو تطوير تقنياته وأدواته لتتماشى مع تجربته».
وأضافت: «أذكر في قصة قصيرة لأحد الرواد العرب؛ يصور حال كاتب يحب امرأة جميلة؛ حيث تركته؛ لأنه يبدع أكثر حين يتألم، وهذه فكرة فلسفية قديمة. وربما كانت الصورة النمطية للإبداع العظيم بأنه صادر من روح متألمة جداً، لكن حتى السعادة يمكنها أن تلهم المبدعين».
من جهته قال الروائي حارب الظاهري: «إن مرارة الألم دائماً ما تشعل الإبداع الحقيقي والمهم على مر العصور وليس الألم العابر أو المجرد من الكينونة الذاتية؛ لذا توافق المبدع مع الألم الذاتي والنفسي ومجرد ما يصل إلى أفق الأسى المتراكم أو المتجدد يصبح الإبداع دافعاً حقيقاً».
وأضاف: «ليس من الضرورة الشعور المباشر بالألم وإنما التشظي الدائم في هذه الطقوس يرمي إلى التساؤلات الحرة والحوار مع الذات، ما يؤجج منظومة الإبداع؛ لذلك فإن الألم هو المحرض الحقيقي للإبداع».
وأشار الكاتب أنور الخطيب إلى أن الألم أشكال وأنواع ومستويات، وكلما اشتد ارتد الإنسان إلى ذاته فيناجيها أو يوبخها أو يدينها أو يستخلص من ألمه الحكمة والتجربة والعبرة، وحين يتألم الجسد تتحفز الروح، أما حين تمرض الروح يهمد الجسد، مضيفاً أن المبدع إنسان متألم على الدوام، قد يخبو الألم لكنه لا يختفي، نظراً لعلاقته الملتبسة مع الوجود، وضعف انسجامه مع عناصر الحياة وأشكالها والأنظمة التي تتحكم بحياة الإنسان، ناهيك عن قلق الإنسان الوجودي المستمر وتوقعه لنظام مثالي يسود الحياة، فإذا فُجع برحيل حبيب أو صديق أو قريب عزيز عليه، أو إذا أصيب بأزمة عاطفية أو مُنيت أمته بهزيمة قوية، فإن ألمه يتضاعف، بمعنى الألم الروحاني الذي تكون إحدى أعراضه الحزن الشديد والانزواء والتأمل، وهذه الأعراض أو العناصر كلها تفجّر الأسئلة والتساؤلات لدى المبدع، وليس شرطاً أن يبدع في لحظتها، بل ينتظر حتى تتخمر وتنضج فيتفجر مرة واحدة، وخاصة في الوقت الذي يستيقظ فيه على الحقيقة المرة للغياب أو تداعيات الرحيل أو تبعات الفراق أو الهزيمة.
وقال: «ليس شرطاً أن يكون الإبداع الناتج عن أزمة ما مغلفاً أو محشواً بالحزن أو التشاؤم أو الغضب، فقد يلد الحزن قصيدة عشق بديعة، وقد يلد الفرح كتابات حزينة أو قصائد وطنية، كل ذلك يعتمد على الفجوة التي لامسها الحزن أو الفرح، وأذكر أنني مررت بفترة مملوءة بالخسارات والانتكاسات فإذا بي أكتب نصاً شعرياً مملوءاً بالافتخار والخيلاء والاعتزاز بالذات، كأن القصيدة في هذه الحالة تشكل معادلاً موضوعياً ليتفادى صاحبها السقوط»، موضحاً أنه لا يمكننا القول إن الألم الروحي ضروري؛ لأنه لا يُستدعى ولا يُكتسب، وإنما هو في جينات الإنسان، ولهذا فإن المبدع يولد مختلفاً باهتماماته وانفعالاته وقراءاته، ونراه يحمل مسؤولية الكون، وهو مختلف في ألمه، الذي يفجر الإبداع لديه، فإذا ازداد وشقيت روحه، سيتفجر إبداعه متجاوزاً نفسه في كل مرة.
من جهته قال الناقد د.رسول محمد رسول: «الألم حالة انكسار النفس، قد يأتيك الألم من حرارة الشمس لكن ذلك قدرك وأنت تعيش في الطبيعة، وأشد أشكال الألم قهراً عندما يأتيك من نظيرك الإنسان، وعندها سيكتسب أبعاده الوجودية، ومن هنا تبدأ رحلة الألم التي يمكن تحويلها إلى طاقة تعبيرية إبداعية، إنها تتطلب عبقرية بقدر ما تتطلَّب جرأة قولها وتصويرها على نحو إبداعي».
وأضاف: «لا يوجد نص إبداعي منذ «ملحمة جلجامش» حتى آخر نص يكتبه شاعر أو روائي إلا ويتأسس على ألم العيش في الوجود بكُل مكوناته. إن الإحساس بالألم فن، والتعايش معه فن، والتعبير عنه في تجربة إبداعية مُغامرة تتطلَّب شجاعة فائقة، عشتُ أسابيع قارئاً لآلام الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا وهو في طريقه إلى الموت، كانت لحظات احتضاره صعبة، وقبله كنت عشت رحلتي قارئاً مع آلام الشاعر الفرنسي آرثر رامبو العائد من رحلته في الشرق بقدمٍ واحدة ليموت بين يدي أخته في فرنسا.
ورأت الكاتبة فاطمة سلطان المزروعي أننا لا نستطيع أن نعمم هذه الحالة على جميع المبدعين، فبعضهم قد ينتجون أدباً مملوءاً بمتغيرات الحياة من حولنا، ويستطيعون هزيمة ظروفهم النفسية والجسدية بالكتابة وتحويل معاناتهم إلى طاقة ومنتج أدبي قد يغير حياتهم وحياة الآخرين، وينقل البعض من براثن الحزن والمأساة والألم والتعاسة إلى بر الأمان؛ إذ ليس بالضرورة أن يكون الألم دافعاً للعزلة وعدم الإنتاج، الكثير من المبدعين القدامى قد أبهروا العالم وحصلوا على جوائز مرموقة وغيرها؛ بسبب تسخيرهم لآلامهم في الكتابة وتوظيفها بشكل عبقري.
وأضافت أغلبية الكتابات وبالأخص الروايات قد يكون مؤلفها متأثراً بقصة معينة أو عانى ألماً معيناً أو قد أصيب بمرض أو تعرض لمشكلة أو تشارك بمعاناة لقريب أو صديق أو شاهد مشهداً مؤثراً، وكل تلك الحالات تعد حالات إنسانية بحتة، يسعى الكاتب لنقلها للقارئ أو توظيفها في كتابته ليضفي عليها الطابع الإنساني، فالروايات التي تظل خالدة عبر الزمن هي روايات تنطق بالإنسانية وتصف الحياة بكل مأساتها وبمعاناتها دون تزييف أو تزوير للحقائق.
تحقيق: نجاة الفارس