تسود اللغات وفقاً لسيادة الحضارات والأمم الناطقة بها، فتصبح عابرة للحدود، إلى حد أن تصبح اللغة العالمية التي يستخدمها الجميع، وربما هي قليلة تلك الأعمال التي رصدت المجموعات اللغوية على مستوى العالم، وعلاقة كل لغة بالأخرى، ومنها كتاب «كلمات العالم.. منظومة اللغات الكونية» للمؤلف أبرام دوسوان، الذي أصدره مشروع «كلمة» للترجمة، ونقله إلى العربية الدكتور صديق محمد جوهر.
يحاول دوسوان من خلال مؤلفه هذا أن يكسر قاعدة التخصص الأكاديمي الجاف، ليأخذنا في سياحة معرفية عميقة باللغة، دون أن يتسرب الملل إلى القراء، خاصة أنه اتبع منهجية وأسلوبية متفردة وممتعة، ليأتي الكتاب عبارة عن موسوعة بحثية قيمة اهتمت بلغات العالم، وتناولت المجموعات اللغوية على مستوى الكون، وهو ما أطلق عليه الكاتب «التكوكب اللغوي الكوني»، مشيراً إلى أن ذلك التكوكب صار جزءاً هاماً من النظام العالمي، حيث إن المجموعات اللغوية هي ظاهرة اجتماعية عالية الخصوصية يمكن فهمها في ضوء نظريات العلوم الاجتماعية.
يخوض الكتاب في شأن التنافس والتقارب بين المجموعات اللغوية العالمية، عبر دراسة اللغات من وجهتي نظر علم الاجتماع السياسي، والاقتصاد السياسي، ويكتشف أن الجنس البشري ظل متقارباً ومترابطاً رغم التعدد والتباين اللغوي.
ويتناول المؤلف مسألة الأصل المشترك للغات المستعملة حالياً، وأنها تطورت مع تطور البشر المنحدرين من سلالة جينية مشتركة خلال ما يدنو من 120 ألف عام، مستندا إلى الدراسات الجينية الحديثة وعلوم اللغات المقارنة والآثار القديمة، والتي تشير جميعها إلى أن للغات أصلاً مشتركاً، وأن هذا اللغات -التي تتراوح بين خمسة وستة آلاف لغة- تمثل بعداً من أبعاد النظام العالمي حاليا. مشيرا إلى تفرد اللغة الإنجليزية حيث صارت لغة كونية عابرة للحدود، بالتالي صارت فخراً للناطقين الأصليين بها، والذين ساعدتهم مسألة سيادة لغتهم في أن يصبح لهم الكثير من المميزات، في حين يعمل الملايين من البشر الآخرين في أنحاء العالم على تعلم الإنجليزية لكونها لغة الفكر الكوني، وينبه لأن اللغة الإنجليزية ليست واحدة، وإنما هنالك مجموعة من اللغات الإنجليزية ذات القواسم المشتركة التي ظهرت في أماكن مختلفة من العالم، ومع ذلك لا يتمتع المتحدثون باللغات الإنجليزية الفرعية بالمكانة التي يحظى بها المتعلمون من أبناء اللغة الأصليين في بريطانيا والولايات المتحدة، فوسائل الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ستظل لأزمنة طويلة هي المتحكمة في توزيع وبث النصوص الإعلامية باللغة الإنجليزية حول العالم. أما بالنسبة إلى أولئك الذين تعلموا الإنجليزية في طفولتهم، فإن كانوا يشعرون بنفس الشعور الفوقي الذي يألفه المتحدثون الأصليون باللغة الإنجليزية، فمن المفترض أن يزول شعورهم بالتميز رويداً رويداً، غير أن المؤلف يرى أن ذلك الأمر لن يزول بين ليلة وضحاها، ففي الوقت الراهن يتمتع المتحدثون باللغة الإنجليزية، من غير أهلها، ببعض المميزات لأنهم يتحدثون لغة ذات أبعاد كونية.
يبين دوسوان أن ظهور اللغة كان إعجازاً بكل المقاييس، وكان تطورها -على صورة لغات لا يمكن حصرها ولا يمكن للناطقين بلغة ما فهم كل اللغات الأخرى- دليلاً قاطعاً على الإبداع الإنساني، ولما كانت اللغات قد نضجت كلٌّ على حدة في سياق الانتقالات والتحولات الجمعية، فلا بد أنه قد برزت للوجود في أشكال جديدة للنطق، وظهرت آلاف من الكلمات المستحدثة وتطورت مئات القواعد النحوية والتراكيب اللغوية «وكذلك الاستثناءات اللغوية التي لا تحصى»، ولقد نشأ كل هذا التطور نتيجة للفعل الإنساني، ومع ذلك ففي غالب الظن أن من أحدث هذا التطور لم يكن يسعى إلى ذلك، وبالتالي لا يمكن أن يُعزى هذا التطور إلى القصد البشري.
ويشير المؤلف إلى التنافس والتقارب بين المجموعات اللغوية العالمية عبر دراسة اللغات، من وجهتي نظر كل من علم الاجتماع السياسي وعلم الاقتصاد السياسي، فالأول يركز على بنية النظام اللغوي وأنظمته المحيطة بما يسمى «الغيرة اللغوية» بين الجماعات المختلفة، واحتكار النخبة للغة الرسمية، وإقصاء الأميين وغير المتعلمين، كما يولي اهتمامه لاستخدام اللغة كوسيلة لتحقيق الحراك الاجتماعي الصاعد، أما الثاني فهو يتناول تحليل الطرائق التي يحاول الناس بها تعظيم فرصهم في الاتصال، وكيف أن هذه المحاولات تصادف معضلات في العمل الجمعي إلى الدرجة التي قد تدفعهم دفعاً للنزوح الجماعي نحو لغة أخرى والتخلي عن لغتهم الوطنية، ويشبه المؤلف وضعية اللغات في نظام اللغة العالمي بنظم الشموس الكثيرة المحاط كل منها بكواكبه الدوارة، معتبراً أن اللغات المركزية الأسمى هي: العربية، الصينية، الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الهندية، اليابانية، الميلاوية، البرتغالية، الروسية، الإسبانية، وأخيراً السواحلية.
الكتاب يوفر متعة كبيرة، ومعارف جمة، ويطلعنا على أسرار اللغة وكيفية نشأتها وانتشارها، وهو كتاب لا غنى عنه لدارسي اللغات ومعين لهم في فهم الظاهرة اللغوية فهماً معمقاً.
الشارقة: علاء الدين محمود