القاهرة:«الخليج»
كانت حياة الكاتب الألماني، هرمان هسه (2 يوليو/تموز 1877 - 19 أغسطس/آب 1962) سلسلة من التمردات والثورات، فلم يلبث الصبي أن ثار على التعليم الديني الصارم، فهو ينتمي إلى أسرة دينية، وكان أبوه مبشراً وقسيساً، وقد اختار لابنه مصيراً كمصيره، فأدخله ديراً بروتستانتياً ليتخرج فيه راعياً ومبشراً كأبيه، وعلى الرغم من اعتراف أساتذته جميعاً بأنه تلميذ نموذجي بكل المقاييس إلا أنه لم يمكث في الدير أكثر من نصف عام، فقد هرب بعدها متمرداً على البيت والتعليم الديني على حد سواء.
لم يجد أبوه بداً من إلحاقه بالتعليم المدني، إلا أن الفتى المتمرد لم يتكيف أيضاً مع هذا النوع من التعليم، وكان نفوره من التعليم المدرسي بكل أشكاله حاداً إلى درجة هدد معها بالانتحار، إذا هو أرغم على البقاء في المدرسة، وانتهت هذه الفترة من حياته بانقطاعه تماماً من التعليم التقليدي، فاشتغل الصبي ميكانيكياً في إحدى الورش، ثم بائع كتب في مدينة توبنجن، ثم في مدينة بال، حيث استقر فيها منذ سنة 1899، وقد سجل اشمئزازه من قيود الحياة المدرسية التقليدية في روايته التي ظهرت سنة 1958 بعنوان «تحت العجلة»، وبانقطاعه عن الدراسة، عكف على القراءة الحرة وعرف منذ ذلك الحين بنهمه للاطلاع والدراسة والبحث، وأتاحت له مهنته كبائع كتب الاتصال بأوساط المثقفين والأدباء، وبدأ في مراسلة الصحف كاتباً للمقالات والقصص.
ظهرت أولى رواياته «بيتر كامينتسند» في عام 1904 فصادفت نجاحاً ملحوظاً، وكان موضوعها هو تمرد الأبناء على الآباء، وفيها يبسط تجربته في فترة التمرد الأولى على الأسرة والمدرسة، واختار أن يكون بطلها كاتباً فاشلاً مشتتاً، لم يستقر على هدف بعد، ثم أتبعها برواية «جرترود» في عام 1910 وفيها يواصل فحص حياته من الداخل والخارج على السواء.
وفي العام التالي رحل هسه إلى الهند طلباً للاستجمام، وهرباً من الأزمات التي أخذت تتدافع على أوروبا حتى أودت بها إلى الحرب العالمية الأولى، فكانت هذه الرحلة فرصة أتاحت له التفكير عن بعد في متناقضات العالم الحديث، وكانت ثمرة هذه الرحلة رواية «روسهالده» سنة 1914 التي يرحل فيها البطل إلى الهند، كما رحل «هسه»، ورواية أخرى ظهرت بعد ذلك بثماني سنوات هي رواية «سد هارتا» التي تقدم دار آفاق للنشر والتوزيع في القاهرة ترجمة فؤاد كامل لها.
جاءت «سد هارتا» سنة 1922 محاولة لحل التناقضات التي تتنازع فكر هسه في جو أسطوري هندوكي، ثم روايته الشهيرة «ذئب البراري» التي تعد من أشد رواياته أصالة، وفيها يدور الصراع الدرامي بين التسليم البرجوازي والتمرد الفطري الغريزي في الإنسان، كان الصراع الأبدي الناشب بين الروح والجسد، وهو صراع تلمسه واضحاً في رواياته المبكرة، ومنها «سدهارتا» ومن هذا الصراع تدور روايته «نرجس وفم الذهب» 1932 بين بطلين أحدهما زاهد عقلاني مثقف، والآخر فنان يسعى وراء خلاصه الخاص، ويعود هرمان هسه إلى الشرق ملتمساً العزاء الروحي والفكري مرة أخرى في كتابه «رحلة إلى الشرق» وفيه يظهر تأثير يونج واضحاً في دراسته للرموز والأساطير في التراث الشرقي.
على الرغم من الجو الأسطوري الذي نسجت فيه رواية «سد هارتا» فإنها يمكن أن تكون رواية كل إنسان يسير في طريق البحث عن ذاته الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى معرفة الله، إنها قصة البطولة الروحية، البطل فيها هو الروح التي تسعى إلى الخلاص، وإلى معرفة الحقيقة عن طريق التجربة الحية، لا عن طريق الجلوس على المقاعد الوثيرة في الحجرات المغلقة.
ظل البطل في «سد هارتا» ينتقل من طائفة إلى أخرى، متجاوزاً كل التعاليم والمذاهب المختلفة، لتكون له تجربته الخاصة في الوصول إلى الحقيقة، والتجربة الحية من أهم سمات الوجوديات الحقة، فعن طريق التجربة يمكن أن نصل إلى المعنى الحقيقي للوجود، كانت حياة هسه في فترة الحرب العالمية الأولى مأساوية إلى حد بعيد، فبالإضافة إلى صدمة الحرب توالت عليه الصدمات الشخصية فأصيب ابنه الأصغر بمرض عضال وفشلت زيجته الأولى، وتوفي أبوه وكان نهباً لصراعات نفسية وذهنية حادة ألجأته إلى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية وشارف على علاجه د. لانج، أحد تلاميذ العالم كارل يونج، واستغرق علاجه 72 جلسة في التحليل النفسي.
وفي هذه الفترة كتب روايته «دميان» وفيها يعبر عن قلق تلك الفترة وعذاباتها، ويظهر فيها تأثير التحليل النفسي عليه، وأثر تعرفه بيونج ونظريته في الانطواء واللاشعور الجمعي والنزعة المثالية والرمزية وبلغ ذروة إنتاجه في رواية «لعبة الكريات الزجاجية» سنة 1943 وهي آخر رواياته وأطولها، وقد ظهرت والحرب العالمية الثانية مشتعلة، وحاول فيها المؤلف تسجيل وصيته الأخيرة للعالم، فوضع فيها خلاصة تجاربه وفلسفته التي تعد نسيجاً أصيلاً، تضافرت في صنعه الفلسفات الشرقية والغربية وتدور الرواية حول صفوة من الرجال عزلوا أنفسهم في مقاطعة مغلقة بعيدة عن صخب الحياة، وقد استحق هسه بعد هذا كله جائزة نوبل التي منحت له عام 1946.
كانت حياة الكاتب الألماني، هرمان هسه (2 يوليو/تموز 1877 - 19 أغسطس/آب 1962) سلسلة من التمردات والثورات، فلم يلبث الصبي أن ثار على التعليم الديني الصارم، فهو ينتمي إلى أسرة دينية، وكان أبوه مبشراً وقسيساً، وقد اختار لابنه مصيراً كمصيره، فأدخله ديراً بروتستانتياً ليتخرج فيه راعياً ومبشراً كأبيه، وعلى الرغم من اعتراف أساتذته جميعاً بأنه تلميذ نموذجي بكل المقاييس إلا أنه لم يمكث في الدير أكثر من نصف عام، فقد هرب بعدها متمرداً على البيت والتعليم الديني على حد سواء.
لم يجد أبوه بداً من إلحاقه بالتعليم المدني، إلا أن الفتى المتمرد لم يتكيف أيضاً مع هذا النوع من التعليم، وكان نفوره من التعليم المدرسي بكل أشكاله حاداً إلى درجة هدد معها بالانتحار، إذا هو أرغم على البقاء في المدرسة، وانتهت هذه الفترة من حياته بانقطاعه تماماً من التعليم التقليدي، فاشتغل الصبي ميكانيكياً في إحدى الورش، ثم بائع كتب في مدينة توبنجن، ثم في مدينة بال، حيث استقر فيها منذ سنة 1899، وقد سجل اشمئزازه من قيود الحياة المدرسية التقليدية في روايته التي ظهرت سنة 1958 بعنوان «تحت العجلة»، وبانقطاعه عن الدراسة، عكف على القراءة الحرة وعرف منذ ذلك الحين بنهمه للاطلاع والدراسة والبحث، وأتاحت له مهنته كبائع كتب الاتصال بأوساط المثقفين والأدباء، وبدأ في مراسلة الصحف كاتباً للمقالات والقصص.
ظهرت أولى رواياته «بيتر كامينتسند» في عام 1904 فصادفت نجاحاً ملحوظاً، وكان موضوعها هو تمرد الأبناء على الآباء، وفيها يبسط تجربته في فترة التمرد الأولى على الأسرة والمدرسة، واختار أن يكون بطلها كاتباً فاشلاً مشتتاً، لم يستقر على هدف بعد، ثم أتبعها برواية «جرترود» في عام 1910 وفيها يواصل فحص حياته من الداخل والخارج على السواء.
وفي العام التالي رحل هسه إلى الهند طلباً للاستجمام، وهرباً من الأزمات التي أخذت تتدافع على أوروبا حتى أودت بها إلى الحرب العالمية الأولى، فكانت هذه الرحلة فرصة أتاحت له التفكير عن بعد في متناقضات العالم الحديث، وكانت ثمرة هذه الرحلة رواية «روسهالده» سنة 1914 التي يرحل فيها البطل إلى الهند، كما رحل «هسه»، ورواية أخرى ظهرت بعد ذلك بثماني سنوات هي رواية «سد هارتا» التي تقدم دار آفاق للنشر والتوزيع في القاهرة ترجمة فؤاد كامل لها.
جاءت «سد هارتا» سنة 1922 محاولة لحل التناقضات التي تتنازع فكر هسه في جو أسطوري هندوكي، ثم روايته الشهيرة «ذئب البراري» التي تعد من أشد رواياته أصالة، وفيها يدور الصراع الدرامي بين التسليم البرجوازي والتمرد الفطري الغريزي في الإنسان، كان الصراع الأبدي الناشب بين الروح والجسد، وهو صراع تلمسه واضحاً في رواياته المبكرة، ومنها «سدهارتا» ومن هذا الصراع تدور روايته «نرجس وفم الذهب» 1932 بين بطلين أحدهما زاهد عقلاني مثقف، والآخر فنان يسعى وراء خلاصه الخاص، ويعود هرمان هسه إلى الشرق ملتمساً العزاء الروحي والفكري مرة أخرى في كتابه «رحلة إلى الشرق» وفيه يظهر تأثير يونج واضحاً في دراسته للرموز والأساطير في التراث الشرقي.
على الرغم من الجو الأسطوري الذي نسجت فيه رواية «سد هارتا» فإنها يمكن أن تكون رواية كل إنسان يسير في طريق البحث عن ذاته الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى معرفة الله، إنها قصة البطولة الروحية، البطل فيها هو الروح التي تسعى إلى الخلاص، وإلى معرفة الحقيقة عن طريق التجربة الحية، لا عن طريق الجلوس على المقاعد الوثيرة في الحجرات المغلقة.
ظل البطل في «سد هارتا» ينتقل من طائفة إلى أخرى، متجاوزاً كل التعاليم والمذاهب المختلفة، لتكون له تجربته الخاصة في الوصول إلى الحقيقة، والتجربة الحية من أهم سمات الوجوديات الحقة، فعن طريق التجربة يمكن أن نصل إلى المعنى الحقيقي للوجود، كانت حياة هسه في فترة الحرب العالمية الأولى مأساوية إلى حد بعيد، فبالإضافة إلى صدمة الحرب توالت عليه الصدمات الشخصية فأصيب ابنه الأصغر بمرض عضال وفشلت زيجته الأولى، وتوفي أبوه وكان نهباً لصراعات نفسية وذهنية حادة ألجأته إلى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية وشارف على علاجه د. لانج، أحد تلاميذ العالم كارل يونج، واستغرق علاجه 72 جلسة في التحليل النفسي.
وفي هذه الفترة كتب روايته «دميان» وفيها يعبر عن قلق تلك الفترة وعذاباتها، ويظهر فيها تأثير التحليل النفسي عليه، وأثر تعرفه بيونج ونظريته في الانطواء واللاشعور الجمعي والنزعة المثالية والرمزية وبلغ ذروة إنتاجه في رواية «لعبة الكريات الزجاجية» سنة 1943 وهي آخر رواياته وأطولها، وقد ظهرت والحرب العالمية الثانية مشتعلة، وحاول فيها المؤلف تسجيل وصيته الأخيرة للعالم، فوضع فيها خلاصة تجاربه وفلسفته التي تعد نسيجاً أصيلاً، تضافرت في صنعه الفلسفات الشرقية والغربية وتدور الرواية حول صفوة من الرجال عزلوا أنفسهم في مقاطعة مغلقة بعيدة عن صخب الحياة، وقد استحق هسه بعد هذا كله جائزة نوبل التي منحت له عام 1946.