Quantcast
Channel: صحيفة الخليج | ثقافة
Viewing all articles
Browse latest Browse all 18121

هجرة الكلمات

$
0
0
إنه لأمر دارج أن يقول كاتب ما: حسناً أنا عاجز عن الكتابة في هذه اللحظات، ثمة ما يكبل كياني، ويجعل قريحتي خالية من كل كوامن الإبداع والتخييل، بحيث لا أستطيع التعبير عن فكرة تخطر لي وأحب الكتابة عنها.
إنه لأمر عادي جداً ذاك الجفاف الذي يحدث في منطقة ما من العقل، فلا تملك الأصابع أن تستجيب لداعي الكتابة؛ لأن الجمل والكلمات هجرتها إلى مكان مجهول، ولا يعرف أحد متى تعود.
والمفارقة التي تؤسس عقلانياً لقبول مثل تلك الحالة، واعتبارها ظاهرة عادية، وعرضاً يصيب المشتغلين بالكتابة، هي أنها حدثت لأشهر الكتّاب العالميين، ومن بينهم من اتخذها هي نفسها موضوعاً للكتابة، مثل: كافكا، وفرجينيا وولف وغيرهما من أعلام الكتابة والأدب في العالم ككل.
فهذا فرانز كافكا يكتب في مذكراته محللاً تلك الظاهرة العصية على الشرح والتعليل، قائلاً: «انقطعت قرابة عشرة أيام عن الكتابة، ومرة جديدة تقف في مواجهتي جهود جبارة، عليك الغوص أعمق، إلى حيث تكون الكلمات، الغطس بشكل يفوق سرعة ما يغوص أمامك».
ثم يمضي كافكا ليشرح معاناة الكاتب حين تتمنع عليه الكلمات في مرحلة يكون فيها مرتبطاً بمواعيد لإنجاز وتقديم عمل إبداعي ما، فيقول:«لم أكتب شيئاً البارحة، وإنني أبتعد أكثر وأكثر عن الكتابة، وأنا معرّض لخطر خسارة كل شيء اجتهدت لتحقيقه خلال الأشهر الست الماضية. ولدي إثبات على ذلك وهو كتابة صفحة ونصف بائسة من قصة جديدة قررت مسبقاً إتلافها... وأشعر من حين إلى آخر بالتعاسة التي تكاد تمزقني».
أما الكاتبة الشهيرة فرجينا وولف فتلجأ إلى تقديم عجزها عن الكتابة في لحظات وأوقات معينة، في ثوب النقد الذاتي، وتلجأ للقسوة على نفسها في مذكراتها عن الموضوع، بحيث تصل إلى درجة اعتبار نفسها -وهي المعدودة من بين أعظم الكتّاب في العالم- كاتبة فاشلة، فتقول: «يجب أن أكتب (غرفة يعقوب)؛ وأعجز عن ذلك، وبدلاً من هذا سأدوّن السبب الذي يمنعني من الكتابة، لتكون هذه اليوميات بمثابة مؤتمن على الأسرار، يحمل وجهاً جامداً، حسناً، كما ترون، أنا فاشلة ككاتبة، أنا قديمة الطراز، ولن أكتب أفضل من هذا».
هل يمكن بعد كل ذلك تحليل أسباب هجرة الكلمات المفاجئة، وعجز الكتّاب حتى المتميزين منهم عن كتابة ولو سطر واحد؟
أظن مما سبق أن تلك الظاهرة مرتبطة بأبعاد نفسية شخصية تتعلق بإحساس الكاتب بالإحباط من نقص التقدير الذي كان يلقاه في أعماله السابقة، وكذلك يمكن أن تنتج الظاهرة بالتأكيد من خلال ممارسة ما يعرف بالرقيب الذاتي من طرف الكاتب، وخشيته باستمرار أن يقع أثناء كتابته فيما لا يرضي من سيتلقون عنه ما سيكتب.
محمدو لحبيب
pechike@gmail.com

Viewing all articles
Browse latest Browse all 18121

Trending Articles



<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>