تواصلت لليوم الخامس فعاليات مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة بعرضين، جاء الأول تحت عنوان «الذاكرة والخوف» للمخرج سعيد الهرش، وهو نص معد من مسرحية «الملك لير» للكاتب الإنجليزي وليم شكسبير.
تحكي المسرحية عن قصة ملك يقرر بعد أن تقدم في العمر وأصبح في حدود الثمانين من الأعوام، أن يقسم مملكته بين بناته الثلاث وأن يعطي لكل واحدة منهن بمقدار حبها له.
يسأل الملك لير بناته الثلاث عن مقدار حب كل واحدة منهن له، أجابته ابنتاه الكبرى والمتوسطة بإجابات ظاهرها الحب وباطنها النفاق والخبث والمجاملة، فأعطى لكل واحدة منهن ثلثاً من مملكته، بينما قررت الصغرى «كورديليا» أن تجيبه بوضوح واستقامة بأنها تحبه كما تحب أية ابنة مخلصة أباها، وبسبب تقدم الملك في السن وخرفه، لم يستطع أن يميز الصدق في كلام ابنته الصغرى، فقرر حرمانها من كل شيء والتبرؤ منها، وأعطى الثلث الباقي لأختيها، لتتفاعل أحداث المسرحية بعد ذلك وتتحول إلى نموذج لعقوق البنات لأبيهن بعد أن أعطاهن كل ما يملكه.
ومن خلال العرض ظهر الملك لير في زي عصري «بدلة حديثة وكرافتة»، وتحول النص إلى محاكمة ذهنية للملك لير ضمن الذاكرة التي احتفظت بحكايته مع بناته.
وقدم المخرج نقداً مباشراً لدوافع الملك لير لتقسيم وطنه، ومن خلال أدواته المسرحية، أثار أسئلة وأرسل رسائل عديدة من قبيل هل من الحكمة أن يشتري الأب حب أبنائه؟، وأن ثمة عقدة ملكية لدى لير مضمونها أن الجميع يكرهه، ولذلك يقسم ملكه بين بناته كي يضمن حبهن على الأقل.
وظف المخرج السينوجرافيا بشكل جيد، واشتغل على الإضاءة وعلى تحريك ممثليه بشكل مميز، وحظي العرض بتفاعل كبير من قبل الجمهور.
وفي الندوة التطبيقية التي تلت العرض، قدم الدكتور غانم السامرائي قراءة تحليلية نقدية للنص الأصلي لشكسبير ولمدى ارتباطه بعرض سعيد الهرش، واعتبر أن العرض يقترب في كثير من أجزائه من النص الأصلي لشكسبير، وقدم إضاءة حول مسرحية الملك لير حيث وصفها بأنها أقسى مسرحية في تاريخ الأدب المسرحي ككل، وأضاف أن كل ما أنتج من عروض للملك لير كانت مجرد اقتراب منها، وأشار إلى أن شكسبير حين كتب مسرحيته تلك، استفاد أثناء كتابته من عمله في عدة وظائف مسرحية، واستعمل بالتالي الكثير من التقنيات المسرحية أثناء كتابتها.
وأكد الدكتور السامرائي أن شكسبير استطاع أن يقدم الخيانة في نصه بأبشع تصوير لها.
وأشاد السامرائي بعرض سعيد الهرش، ولفت الانتباه إلى أن العرض من إعداد للمرحوم قاسم محمد، وأثنى على توظيف المخرج للمكعبات على الخشبة، وعلى توظيفه للألوان وللموسيقى التي قال عنها إنها بدت كئيبة للغاية ومتفقة مع السياق العام للمسرحية، وأكد أن استخدام المخرج لتقنية الأصوات المتعددة في العرض للتعبير عن صوت واحد هو إضافة جميلة وغير عادية.
وفي التعقيبات والمداخلات في الندوة، حيا البعض القيمة الانضباطية الكبيرة فوق خشبة المسرح، والربط بين الحالة الكلاسيكية والمعاصرة التي حاول المخرج تقديمها، غير أن البعض الآخر انتقد اختيار المخرج لإعداد آخر كي يعد منه عرضه، واعتبروا أن ذلك يطرح سؤالا نقديا هاما وهو: هل يمكن توجيه العرضين لنفس الجمهور،أم يجب أن يكون كل عرض على معرفة في الأصل بجمهوره ويضعه في الاعتبار أثناء الإعداد المسرحي للنص؟.
العرض الثاني جاء بعنوان «العميان» للمخرج يوسف القصاب وهو مأخوذ عن نص للكاتب المسرحي البلجيكي موريس مترلينك الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1911، ويحكي النص عن مجموعة من العميان يتعهدهم كاهن عجوز بالرعاية ويقودهم إلى منتزه كي يتمتعوا بالشمس قبل أن يحل الشتاء، لكنه يموت فجأة، ليتركهم في التيه، ومحاولة تحديد خط الرجعة، والبحث عن منقذ.
قام المخرج يوسف القصاب بإعادة اختزال الشخصيات الكثيرة التي كانت موجودة في النص، واشتغل جيدا على المفارقات التي تنتجها محاولات العميان لتحديد الوقت وهل هو شروق أم غروب، أم ضحى أم عشية، من خلال إحساسهم بالضوء وبالبرد والجوع، وتذكر بعضهم أنه كان يرى في طفولته الشمس، فظهرت جمل حوارية من قبيل «حين أحس بالجوع أعرف أن الوقت تأخر»، وفي محاولاتهم العديدة لاكتشاف موقعهم، وأين اختفى دليلهم، ثم حين اكتشفوا جثته، وكيف تعلقوا بصوت بكاء طفلة العمياء المعتوهة التي توجد بينهم، وكيف اعتبروه دليلاً على أنها ترى شيئا ما، لعب يوسف القصاب بأدواته المسرحية بشكل مميز، وقدم عرضا حظي هو الآخر بتفاعل كبير من الجمهور، واحتوى على لوحات بصرية متناسقة.
وقدم مصطفى آدم الذي أدار الندوة التطبيقية التي أعقبت العرض إضاءات نقدية مهمة حول موريس مترلينك، وحول نصه، فقال إن الكاتب تأثر بفلسفة شوبنهاور، وأنه يستخدم اللغة الشاعرية، ويصنع لوحات مسرحية تعكس الأزمات ودواخل الشخصيات، وأشار إلى أن كون الدليل «الكاهن» كان هو أول من يموت رغم أنه كان الأقوى بينهم.
وأكد آدم أن النص كله كان محاولة لتقديم فكرة البحث عن الأمل، والجواب على سؤال: ماذا نفعل؟.
وقال آدم إن الكاتب حدد أصلا في نصه إرشادات دقيقة لأي مخرج يتعامل مع نصه، وأكد على ضعف حركة الممثلين لأنها تناسب طبيعة العميان الذين يوجدون في مكان مجهول وهم خائفون من ذلك. وأشاد آدم بالمخرج وقدرته على التعامل مع النص، غير أنه أخذ عليه توظيفه المبالغ فيه للموسيقى بحيث لم يتبين الحوار في بعض مناطقه.
التعقيبات في الندوة انهالت بالثناء على يوسف القصاب وأكد بعضها أننا أمام مخرج واعٍ يوظف أدواته المسرحية بشكل جيد، غير أن البعض أشار إلى وجود مشكلة في الأداء الحركي في العرض وأنه لا يتناسق مع الحوار.