يعتبر كتاب الفتوحات المكية لمحيي الدين بن عربي، دائرة معارف إسلامية لا نظير لها في المكتبة العربية. وكما يرى د. أبو العلا عفيفي: لا نظن أن كتاباً آخر من كتب ابن عربي، كان له مثل هذا التأثير في الخاصة والعامة، وفي المشتغلين بالتصوف أو المعنيين بالعلوم الإسلامية الأخرى.
كتبه ابن عربي «الفتوحات المكية» وهو ملمّ إلماماً بالتراث العقلي والروحي الإسلامي إبان نضجه، وأخذ من هذا التراث ما أخذ، وفهمه على النحو الذي أراد وفسره، ووجهه الوجهة التي ترضي نزعته ومذهبه، ثم أضفى على ذلك كله صبغة قوية من تفكيره وتجاربه الروحية، وخرج على العالم بهذا المصنّف العجيب الذي أصبح منذ عهده مرجعاً مهماً للعلماء والصوفية ودارسي التصوف، ومصدر وحي في إنتاج كثير من العباقرة في شرق العالم الإسلامي وغربه.
وقد خلف ابن عربي في «الفتوحات المكية» ثروة طائلة من المصطلحات الفلسفية الصوفية، استمدها من كل مصدر عرفه كالقرآن والحديث، وعلم الكلام والفقه والتصوف السابق عليه، وفلسفة أفلاطون وأرسطو والرواقيين، ورجال الأفلاطونية الحديثة والغنوصية والهرمسية، وقد صبغ هذه المصطلحات كلها بصبغته الخاصة، وأعطى لكل مصطلح معنى جديداً يتماشى مع روح مذهبه، وما من صوفي أتى بعده إلا استعمل لغته وكتب بوحي منه.
على أن أثر كتاب «الفتوحات المكية» ليس قاصراً على معجم المصطلحات فيه؛ بل يتعدى ذلك إلى مادته وما فيها من شتى فنون التفكير، وليس ما خلفه الشعراء من شعر صوفي رائع، إلا صدى لتلك المعاني التي ابتكرها صاحب الفتوحات؛ بل إن أثر الفتوحات المكية لم يقف عند حدود العالم الإسلامي، شرقه وغربه؛ بل تعدى تلك الحدود إلى الأوساط المسيحية واليهودية في أوروبا، فقد تأثر به شعراء كثيرون منهم دانتي في كثير مما قاله في وصف الجحيم والنعيم.
أما تسميته بالفتوحات المكية فلأنه على حد قول المؤلف مما فتح الله به عليه أثناء زيارته لمكة سنة 589، وقد ألفه خلال 38 سنة، ويكاد يكون من المستحيل وصف كتاب الفتوحات المكية من حيث مادته بأكثر من أنه موسوعة ضخمة في العلوم الدينية والتصوف وعلوم الأوائل، خالية تماماً من وحدة التأليف والغرض، لا يصدر فيها صاحبها عن رؤية أو تفكير، وإنما يسجل كل فكرة تخطر بباله، وكل تجربة تضطرب في نفسه، تسجيلاً تلقائياً هو وليد اللحظة التي يتم فيها؛ ولذلك كما يقول أبو العلا عفيفي يسود الكتاب التفكك والاضطراب، كما يسوده الاستطراد وتداخل المسائل بعضها ببعض، وابن عربي نفسه يعترف بذلك.
والكتاب لا يدور حول موضوع واحد ولا مادة علمية واحدة؛ وإنما هو عرض شامل للثقافة الإسلامية والعلوم الدينية والفلسفة النظرية منها والعملية، وقد وضع ابن عربي 251 مؤلفاً ما بين كتاب ورسالة. ومن الصعب تصنيف هذه المؤلفات على أي أساس علمي من أسس التصنيف، فمن المتعذر مثلاً ترتيبها زمنياً أو حسب مادتها.
ومع إحاطة ابن عربي التامة بالتراث الفكري الإسلامي الذي كان معروفاً في عصره، لم يشغل نفسه بالتأليف في الفلسفة، إلا من حيث ما يجد صلة بينها وبين بعض مسائل التصوف، ولا بعلم الكلام إلا عرضاً.
والفتوحات المكية مرآة تنعكس فيها ثقافة ابن عربي الواسعة وحياته الروحية، ويتصل الكتاب اتصالاً وثيقاً بأكبر عدد من مؤلفات ابن عربي، ولما كان أوسع كتاب ألّفه وعالج فيه شتى المواضيع والمسائل التي عالجها على انفراد في كتبه الأخرى، كان منها بمثابة الخلاصة العامة والثمرة الناضجة لكل ما كتب.
ولد ابن عربي في الجنوب الشرقي من الأندلس يوم الاثنين 17 من رمضان سنة 560، وقضى فيها نحو 30 سنة، ومع أن ابن عربي اتخذ من إشبيلية مقراً له، فإنه كان يرتحل عنها إلى بلاد أخرى في الأندلس زائراً متجولاً يرتاد العلماء ثم يعود إليها. زار قرطبة وهو شاب والتقى بالفيلسوف ابن رشد الذي كان قاضي المدينة آنذاك، وفي سنة 598 هجر الأندلس وذهب إلى المشرق ليقضي فريضة الحج، لكنه لم يعد منه، وأغلب الظن أن رحلته إلى المشرق كانت فراراً من الأندلس والمغرب، وجوّهما الصاخب دينياً وسياسياً، وما كان يسود هذا الجو من تزمت واضطهاد للمفكرين الأحرار.
زار ابن عربي مصر ولم تطب إقامته بها؛ لأن أهل مصر لم يحسنوا وفادته، بل حاول بعضهم اغتياله وكادوا ينجحون في ذلك، ولما رحل من مصر زار كثيراً من بلدان المشرق، ثم استقر به المقام في دمشق التي أقام بها إلى أن توفي ليلة الجمعة 28 ربيع الآخر سنة 638، ودفن في جبل قاسيون.