روبنسون كروزو، لدانيال ديفو، ليست إحدى الروايات الخالدة، التي أصبحت جزءاً من التراث الإنساني فحسب؛ لكنها ذات أهمية خاصة في تاريخ الأدب أيضاً، فهي أول عمل قصصي وروائي كتبه دانيال ديفو في القرن الثامن عشر، فكانت فاتحة النشاط الروائي الذي ازدهر في إنجلترا، واكتمل نموه في القرن التاسع عشر، وانتقل من إنجلترا إلى فرنسا وروسيا.
لم يكن دانيال ديفو يدرك أهمية العمل الذي قام به، فعلى يديه ولد الفن الروائي، من دون أن يدري، فكل ما كان يريده هو أن يسجل أحداثاً حقيقية وقعت فعلاً، ولا دخل للخيال فيها، هذا ما ادعاه وقد عمل بكل وسيلة لإيهام القارئ بصحة الأحداث، فقد أضفى على قصته الخيالية جواً من الصدق والواقعية.
ونجح بالفعل في إرساء أسس فن أدبي جديد بهذه القصة التي جعلت القراء يتعلقون بالبطل، ويتتبعون مغامراته وهو يجوب أطراف الجزيرة النائية، بحثاً عن الطعام، مستكشفاً معالم العالم الجديد، ليجد طريقة يصنع بها آنية، وليحتفظ بغذائه فيها، أو هو يقاتل عدداً من آكلي لحوم البشر.
وعلى الرغم من أن هذه القصة تقرأ في سنوات الطفولة الأولى، إلا أنها لم تكتب أصلاً للأطفال.
كان ديفو ينحو نحواً جديداً في كتابة الأعمال القصصية، ويتجه نحو الواقع ليقدم شخصيات من واقع الحياة، وإن وجدوا أنفسهم في ظروف غريبة مثيرة. وكما تحرى د. أنجيل بطرس سمعان، فإن ديفو كان يباعد بين عمله، وبين تلك القصص الرومانسية التي كان يرى فيها كثيرون من أبناء عصره عبثاً ومضيعة للوقت، وهذا الاتجاه كان نتيجة لمزاجه الخاص ولروح العصر الذي عاش فيه. فمن الواضح أن دانيال ديفو، وبطل قصته إنما يمثلان أبناء تلك الطبقة المتوسطة، التي كان لنموها في ذلك الوقت فضل كبير في جعل فن الرواية ممكناً.
كتب دانيال، روبنسون كروزو، وهو على مشارف الستين من عمره، بعد أن اكتسب خبرات وتجارب متنوعة، فقد كان شخصية مثيرة غامضة عمل بالتجارة والصحافة والجاسوسية، واستحق أن يلقب بأبي الرواية، ويختلف كتاب سيرته فيما يختص ببعض التفاصيل عن حياته، لما اكتنفها أحياناً من غموض وتناقض، نتيجة مزاولته بعض أنواع النشاط التي تدعو إلى السرية.
وقد أراده والده أن يكون قساً، لكنه اتجه إلى التجارة، فعمل لدى صانع جوارب، ثم استقل بتجارة خاصة به وراجت أعماله، وقام برحلات تجارية متعددة إلى بعض دول أوروبا. وقد عانت بلاده اضطرابات عاشها هو، حيث ساد الصراع بين أنصار المذهب البروتستانتي، والملوك الكاثوليك، وكان ديفو يكتب النشرات سراً للدفاع عن المذهب البروتستانتي، الذي انتصر في النهاية، وعرف ديفو في أوساط البلاط الملكي، لكن تجارته بارت وأفلس، وعاش في عزلة تامة حتى إن الناس أطلقوا عليه لقب «سيد يوم الأحد»؛ لأنه كان يختفي بقية أيام الأسبوع خوفاً من الدائنين.
بدا من الواضح أن ديفو أكثر نجاحاً ككاتب منه كرجل أعمال، وقد استمرت أحواله المالية بين الصعود والهبوط، إلى آخر حياته، حتى يقال إنه قضى أواخر أيامه في السجن، لعدم تمكّنه من سداد بعض الديون، كما أنه تعرض للسجن لأسباب سياسية. فقد حكم عليه بغرامة مالية والوقوف في آلة التعذيب ثلاث مرات، ويقال إن الشعب وقف إلى جانبه في هذه المحنة، بدلاً من أن يقذفه بالطماطم والبيض الفاسد كما كان متبعاً، وقدم له البعض الزهور، وجعلوا منه بطلاً شعبياً، وكانت فترة وجوده في السجن فرصة للتعرف إلى كثير من المجرمين، الذين أمدته قصص حياتهم بالمادة الخام لبعض أعماله القصصية والروائية.
يتفق النقاد على أن ديفو لعب دوراً مهماً في إرساء قواعد الصحافة الإنجليزية الحديثة، وأنه اكتشف معظم أدواتها فأصبح بذلك أباً للصحافة، كما أصبح أباً للرواية، وقد كتب أهم أعماله في الفترة ما بين عامي 1715 و1731، وكانت روبنسون كروزو، أول هذه الأعمال.
وقد أغراه نجاحها السريع وأصدر منها أربع طبعات خلال أربعة أشهر، فعمل على كتابة جزء ثان أسماه «مغامرات أخرى لروبنسون كروزو، لم يصب كثيراً من النجاح، لكنه أتبعه بجزء ثالث، وتوالت بعد ذلك أعماله الأخرى التي حجب نجاح روبنسون كروزو، كثيراً من قيمتها وأهميتها.
لقد كتب جان جاك روسو، أن روبنسون كروزو، هو الكتاب الوحيد الذي يمكن أن يعلّم كل ما يمكن أن تعلّمه الكتب. ويقول آخرون إن أهمية روبنسون كروزو، ترجع إلى أنها تعد أول عمل قصصي تتمثل فيه الفردية والواقعية خير تمثيل. فكروزو شخصية واقعية تختلف عن أبطال القصص الرومانسية من ناحية، وشخصية تمثّل الفردية الاقتصادية من ناحية أخرى.