القاهرة: «الخليج»
تلقى الكاتب الفرنسي «أندريه جيد» تربية قاسية، في أسرة برجوازية، توفي عائلها، وترك أمر الأبناء للأم المتسلطة، فعاش الكاتب طفولة مشوشة، وفي عام 1891 نشر «دفاتر أندريه فالتر» التي يتحدث فيها عن نفسه، وعن ابنة عمه التي تزوجها فيما بعد، وكان يملك ثروة طائلة، أهّلته لأن يعكف على القراءة والكتابة، التي جعلته في عام 1947 يحصل على جائزة نوبل في الأدب.
عرفه القراء العرب من خلال ترجمات «أقبية الفاتيكان»، و«المزيفون»، و«الباب الضيق»، ومن خلال صداقته لطه حسين، حيث تحمل أندريه جيد عبء تعريف القراء الفرنسيين بطه حسين، عبر تقديمه للترجمة الفرنسية لكتاب «الأيام»، كما أن جيد أصدر عدة كتب في أدب الرحلات، خصوصاً ما قام به من زيارات للجزائر ومصر والكونجو.
أندريه جيد أحد قطبين بارزين للقصة النفسية في فرنسا، وأول هذين القطبين هو «مارسيل بروست» (1871-1922) وقد تميز بروست بغوصه في ماضيه، وتصويره هذا الماضي نابضاً حياً، ويتجلى هذا في عمله الشهير «البحث عن الزمن الضائع»، كان يريد أن يستعيد هذا الماضي ويعيش فيه منغلقاً على حاضره، أما «أندريه جيد» فكان يناضل على العكس، للتخلص من ماضيه، وجميع أعماله تدور حول محور مشكلة واحدة: كيف ينبغي لنا أن نعيش؟ وما القيم الجديدة التي نعيش بها، ولها؟
وكان هذا بعينه هو السؤال الذي يوجهه الجيل الجديد في فرنسا، بل في أوروبا كلها، لنفسه غداة الأزمة التي قلبت الحضارة في سنوات الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وهذا جانب كبير من السر في النفوذ الكبير الذي تمتعت به كتابات أندريه جيد، ولا يمكن أن نعرف طبيعة هذا النفوذ الكبير إلا إذا عرفنا مزاجه النفسي، وما طرأ عليه من تطور، حسب تعبير نظمي لوقا، في تقديمه لترجمته رواية «سيمفونية الرعاة».
اكتسبت قراءة دستويفسكي واكتشافه نظريات فرويد في التحليل النفسي تدعيماً لملكة النقد لدى أندريه جيد، فأعلن أن حقيقتنا تكمن في تلك الغرائز التي تكبحها التربية، وتكبتها في أعماق أغوارنا، فإن لم تجد متنفساً لها سمّمت منابع الحكم العقلي، وهكذا تتحول الأخلاقيات الظاهرية إلى نفاق ورياء، ولذا نادى بالاستجابة الصريحة لدوافعنا الحيوية، ولو أدى ذلك إلى الفضيحة، ويعتقد أنه ربما ظهرت في هذا الإطار الصريح شعلة العبقرية، هو إذاً- حسب تعبير نظمي لوقا- ضد كل انقياد من جانب الفرد للتيار العام انقياداً أعمى، لكنه مع هذا احتفظ في تكوينه النفسي بتيار متدين، وهذا هو السر في معظم أعماله، لاستشهاده في كثير من المواضع بالإنجيل، وشخصيات رواياته يتنازعها هذان التياران: تيار التحرر الفردي المتمرد على القوالب، وتيار الدين المسيحي، فكيف لا تكون قصصه من النوع النفسي الذي يصور حيرة الإنسان وصراع هذين التيارين فيه؟
في روايته «سيمفونية الرعاة» يدور الصراع بين الحب الحسي، وبين المحبة الروحية، وما تمليه من إحسان ورحمة، ويدور هذا الصراع في نفس قس بروتستانتي شديد التدين تعرض له الغواية في شخص صبية عمياء، شبه خرساء، يتيمة، هو الذي علمها القراءة والكلام، وثقفها. إنها أشبه ببجماليون أخرى كالتي تصورها برنارد شو، إنه هو الذي حولها من خامة غفل، لا معرفة لها، ولا إحساس بالحياة، إلى كائن شديد الحساسية، يجيد عزف الموسيقى، وتكشفت عن جمال فائق، وهكذا تسربت الغواية، ونما الحب بينهما كأقوى ما يكون، يمكن الفتاة لم تعرف الصراع الذي عرفه القس الكهل، الذي تسلل الحب إليه تحت قناع الرحمة والمسؤولية الدينية.
يقول نظمي لوقا: «صورة بارعة من أدب أندريه جيد تقدمها سيمفونية الرعاة بأسلوبها الموسيقي، وإتقانها، أي ستطبق الذي اشتهر به هذا الكاتب الذي عاش للفن، ولم يكن مضطراً للتكسب بفنه، وهو يستعير للعنوان هذا الاسم المشهور في عالم الموسيقى، ويتلاعب بمدلول كلمة الراعي باللغة الفرنسية، حيث تدل على رعاة الأغنام، وعلى القسوس البروتستانت.
برع أندريه جيد في تصوير ما يتنازع النفس الإنسانية من العواطف والانفعالات، وكيف يحار الإنسان بين الالتزام الخلقي ورغبات نفسه، و«سيمفونية الرعاة» مكتوبة على شكل مذكرات، شأنها شأن «آلام فيرتر» لجيته، و«المساكين» لديستويفسكي، ما أتاح للمؤلف تتبع خلجات البطل النفسية وأطوارها خطوة خطوة، وهناك قصة طويلة بعنوان «محاولة حب» وهي تنتمي إلى نفس النوع النفسي الرمزي.