فتح اختيار ملتقى الشارقة للخط العربي «النقطة» موضوعاً لدورته السابعة، باباً واسعاً أمام الخطاطين المشاركين من مختلف البلاد العربية والإسلامية، إذ انكشفت معالجات متعددة لمفهوم واحد، فتجلت مسارات كل تجربة في الوقوف عند النقطة، بحيث صارت النقطة مركزاً تتفرع منه رؤى جمالية متعددة، تعيد قراءتها تكويناً، ومفهوماً، وفكرةً.
ظهرت معالجات الفنانين في تلك المسارات وفق التجارب المتراكمة التي ينطلقون منها في البحث عن مفهوم جديد للنقطة، إذ يجد المعاين للمعرض العام للملتقى سلسلة من التجارب التي تتباين، وتتقاطع في مساحات واحدة داخل مفهوم النقطة، إلا أن أكثر ما يكشف الرؤى في مفهوم النقطة كان الشكل الذي عالج فيه الخطاطون موضوعهم.
لا يمكن الحديث عن الشكل المرادف للتكوين في العمل الفني داخل اللوحة الخطية من دون النظر إلى المدارس والتجارب التي يستند إليها الخطاطون في معالجتهم لأعمالهم، فالنقطة في نمط الأعمال التقليدية المدرسية لها مسار مغاير عما يقابله من أصاحب المدارس الحديثة، إضافة إلى أن الالتفات إلى صورة النقطة في العمل التركيبي، والمنحوتة تشكل بين الأعمال فروقات لافتة يمكن قراءاتها في مسار الشكل والرؤية والمفهوم.
وبالنظر إلى تلك المحمولات التي تشكل مرجعيات الخطاطين في الملتقى، يمكن الوقوف عند ثلاث معالجات لافتة، قادرة على تكثيف الكثير من المعالجات التي ظهرت في الملتقى، فالمتابع يجد أن مسارات معالجة النقطة ظلت تتمحور حول النقطة بشكلها الهندسي، وعلى النقطة كمفردة ترد في العبارات الشعرية، والحكم، والأمثال، إضافة إلى التحوير والتحويل الذي يقارب فيه الخطاطون بين النقطة وعلامات واضحة في الثقافة الجمالية والتاريخية للعرب والمسلمين.
تتجلى هذه المسارات الثلاثة في ثلاث تجارب خطية مشاركة في الملتقى، الأولى للفنان العراقي المقيم في فرنسا حسن المسعود، والثانية للخطاط المغربي عبدالمالك نونوجي، أما الثالثة فهي للخطاط المصري حسام عبدالوهاب.
يشتغل المسعود في تجربته على النقطة في شكلها القائم على المفردة العربية الدالة عليها، محققاً بذلك علاقة انسجام بين تجريد اللغة المتمثل في تتابع الحروف، وبين الشكل المغرق في التجريد والمتمثل في النقطة بشكلها الحروفي، فيستعين بالقصيدة العربية لفتح المنفذ الدلالي لصورة النقطة بتجلياتها البعيدة.
يكتب المسعود في عمله أبياتاً من قصيدة ابن هانئ الأندلسي يقول فيها: «اللؤلؤٌ مع هذا الغيث أم نقطُ/ ما كان أحسنه لو كان يُلتقطُ»، فاتحاً بذلك منافذ متشابكة في قراءة النقطة، فيحقق بين الشكل، والمفردة، والمعنى، والتصوير الجمالي، علاقات منسجمة تتجلى على سطح الورق في اللوحة.
ويوظف مقابل ذلك كله الدلالة اللونية في استقطاب الطاقة البصرية لمشاهد العمل، فيستخدم اللون الأحمر لكتابة «نقط» بصورتها كمفردة، ويكتب بيت الشعر في اسفلها، محققاً علاقة تقابلية على صعيد توزيع الكتلة في العمل، ليبدو البيت الشعري بكل ما يحمله من مفردات مرادفاً وزنياً لمفردة «نقط» في اللوحة.
إلى جانب هذه الجهد الواضح في معالجة النقطة تنكشف قدرة الفنان المغربي عبد المالك نونوجي في العمل على تحوير الدلالة الشكلية للعناصر الجمالية الراسخة في الثقافة الإسلامية، والعربية، والعمل على نقلها من محورها القائم بذاته نحو الامتثال لصورة النقطة ودلالتها، فيعمل على تكوين الكعبة المشرفة بوصفها ذات تكوين مكعب، وذات لون أسود، وتمثل في الدلالة الإسلامية مركزاً مقدساً.
ينجح الخطاط نونوجي في ذلك التحوير الجمالي، فيختار منظراً أفقياً بعيداً للكعبة المشرفة، تظهر فيه مع شكل الحجاج حولها أشبه بنقطة تطوف حولها العبارات، والجمل، محققاً بذلك رمزية جديدة للنقطة، ليجعل منها مركزاً، وفي الوقت نفسه يجعل من حروف الخط كائنات تدور في فلك تلك النقطة.
ويفتح نونوجي في عمله ذلك دلالات موغلة في التجريد والبحث، وفي الوقت نفسه مشغولة بحساسية جمالية عالية، إذ ظل العقل الفلسفي في بحثه للنقطة يشير إلى أنها بداية الخط، وجذره الحقيقي، وتكاد تكون العلاقة بينهما أشبه بعلاقة الأم بابنها.
ليس ذلك وحده ما يطرحه نونوجي، فإنتاج علاقة بين الرموز الدينية والخط العربي، مسار طويل سار عليه الكثير من الخطاطين تاريخياً، إلى الحد الذي بات الخط العربي قرين المصحف، وبات الخطاطون يتنافسون على تحسين الخطوط لتتناسب وترتفع إلى منزلة النص المقدس.
مقابل هذا الاشتغال والجهد المغاير تنكشف تجربة الفنان المصري حسام عبد الوهاب، في عمله على النقطة، إذ يذهب بعيداً عن نونوجي، وعن المسعود، ويفتح الفضاء كاملاً أمام النقطة كتكوين ومفهوم، فتخرج في عمله بوصفها تكويناً مستقلاً قائما بذاته على عكس ما يظهر في الأعمال التقليدية.
يتجلى هذا الاشتغال في عمله الحروفي الذي يحول فيه شكل النقطة إلى مساحة لكتابة العبارات وتكوين اللوحة الحروفية، فتتحول اللوحة ذاتها إلى نقطة، تنكشف على سطحها نقاط، وحروف كثيرة.
ليس ذلك وحده ما يفتح عبد الوهاب الباب عليه، وإنما يشتغل على دلالة النقطة كعلامة ترقيم، فيرسم مسار تحولها من نقطة لانتهاء الكلام، إلى دلالة على حذف الكثير من الكلام، وذلك من خلال تتابعها في ثلاث نقاط مجتمعات، حيث يقدم عمله في ثلاث نقاط كبيرة تحتوي كل واحدة منها على أشكال حروفية وعبارات شعرية. يمكن القول بالاستناد إلى كل ذلك، أن الجهد البصري المبذول لبحث مفهوم النقطة، لا يزال مشرعاً، وقابلاً للعمل في سلسلة من المنافذ غير المطروقة حتى اليوم.
الشارقة: محمد أبو عرب