لم يتوقف التنظير الفني، والنقد الأكاديمي لمدارس الفن التشكيلي عن طرح التساؤلات حول مفهوم الرمزية في العمل الفني، للحد الذي صارت الرمزية واحدة من التيارات والمدارس الفنية التي تكاد تكون منفصلة - رغم تماهيها في الكثير من العلامات - مع التعبيرية بكامل تجاربها الكبيرة.
فتح النقد التشكيلي هذا المسار في العمل الفني، وقدم فيه الكثير من الأطروحات التي تتوقف عند عناصر العمل الفني، وتبحث عن الإشارة التي أراد الفنان تحقيقها في توظيف كل خط، وإشارة، ولون، فلم تعد اللوحة جمالية بصورة خالصة بقدر ما صارت ذات دلالات مقروءة في المقابل.
يطرح هذا الواقع تساؤلاً عريضاً يمكن الوقوف عنده في قراءة الحركة التشكيلية الإماراتية، والانطلاق منها لقراءة واقع التشكيل العربي والعالمي، إذ هل يمكن للوحة أن تنفصل عن مفهوم الرمز بصيغته الدلالية واللغوية؟ وهل يمكن بناء عمل فني من دون الارتكان إلى مفاهيم ورؤى وأفكار متوارية خلف المرئي من العمل؟ وكيف يمكن انتزاع مفهوم الرمز من الشكل البصري، في الوقت الذي يمثل فيه كل خط، وكل علامة، وكل أثر مساحة مشرعة على التأويل، والقراءة في سياقات عميقة؟
تكشف التجربة التشكيلية الإماراتية في مسارها القائم على جيل الرواد، والشباب، والمجددين، عن إشكالية الرمز، ومفهوم الرمزية في العمل الفني، إذ تظل الرمزية مدرسة قائمة بذاتها، ولها اشتراطاتها، وكبار فنانيها، أمثال جيمس وسلر، ودانتي روزيتي، شافان، غوستاف مورو، إلا أن حضورها المفهومي يظل قائماً في مجمل مدارس الفن التشكيلي، ولا يمكن الخلاص منه، فيمكن الوقوف عنده في تجريدية محمد القصاب، وتعبيرية عبد الرحيم سالم، ود. نجاة مكي، وواقعية عبيد سرور، وعبد القادر الريس، إلى جانب كل من يحاكيهم ويتأثر بهم من الأجيال الجديدة، أمثال الفنان فريد الريس، وسالم الجنيبي، وغيرهم من الأسماء الشابة.
تظهر العلاقة الجذرية بين الرمزية والعمل الفني بصورة عامة، بالوقوف مطولاً عند مفهوم الرمز، وأصل العمل الفني، ودلالته البصرية، فالانطلاق من العلاقة القائمة بين المرئي، ودلالته تحيل مباشرة إلى مفهوم الرمزية، فكل ما هو مرئي قابل للقراءة والتأويل، وكل ما هو قابل للتأويل هو لغة بمستوياته المتعددة، سواء اللغة الحاضرة في رمزية الحروف، أو اللغة الحاضرة في رمزية الشكل المرسوم، أو الملون، أو المنحوت، أو حتى المتحرك، والمصور فيديو كان أو فوتوغراف.
يفتح مفهوم اللغة البصرية باباً واسعاً على حضور الرمزية في العمل الفني، إذ حينها تنهدم خصوصية التيار الفني المتفرد، وتصبح الرمزية عنصراً مركزياً في العمل الفني، يتساوى في أصالته مع الشكل، والخط، والفراغ، والمادة، واللون، فأي عمل فني مرئي، يمكن تحققه من دون تلك العناصر؟
لذلك يمكن الوقوف عند الرمزية في نماذج من التجربة التشكيلية الإماراتية، والتماس مساراتها، ومراتبها داخل العمل الفني، فلا يمكن الحديث عن الرمز بمفهومه الواسع، إذ يتفرع في العمل التشكيلي إلى مسارات متعددة لكل منها خصوصيته، وتجربته، وأثره في المتلقي.
تتشكل مسارات الرمزية في العمل الفني في ثلاثة مستويات، الأول منها هو العمل الفني بأكمله، والتعامل معه بوصفه رمزاً لقضية، وفكرة كبيرة، وما كل ما يكشفه العمل إلا سلسلة علاقات متضافرة لتحقيق الرمزية الكلية للوحة، ويتجلى هذا في فنون البوستر، والملصقات، والشعارات، إضافة إلى مجمل الأعمال الواقعية الخالصة، فأعمال الفنان عبد القادر الريس التي تناول فيها البيئة الإماراتية، شكل فيها العمل رمزاً لاستحضار الماضي، وتكثيف رمزية التراث وتاريخه الطويل، بالبيوت الطينية، والمراكب البحرية، وغيرها من محمولات التراث الإماراتي.
أما المستوى الثاني فيحضر في دلالة الشكل داخل اللوحة، ويحيل إلى فكرة عامة، أو قضية كبرى، أو شخصية، أو غيرها مما يشتغل عليه الفنان، فالمتابع لتجربة الفنان عبد الرحيم سالم يعثر على رمزية المرأة في الشكل الأنثوي الذي لا يتوقف عن العمل عليه في لوحاته، وهو بذلك يوظف الحكاية الشعبية «مهيرة» لتصبح رمز المرأة، والصبر، والجمال، والخصوبة، والحب.
إلى جانب ذلك يحضر الرمز في إطار الإشارة إلى مفهوم، أو أثر بصري، وفيه تظهر قدرة الشكل وأثر اللون على إحالة الملتقي إلى المكان الذي يريد الفنان أن يضعه فيه، والحالة التي يريده أن يشعر بها وهو أمام اللوحة، فاللون قد يكون رمزية الفرح، وقد يكون رمزية الحزن، والخط يمكن له أن يبعثر عناصر اللوحة ويشعر المتلقي بالتشتت، وقد يشعره بالحدة والثبات.
لذلك لا يمكن النظر إلى خطوط الفنانة نجاة مكي من دون الالتفات إلى رمزية القوة والتحدي الذي يثيره الخط والشكل في أعمالها، فالنساء المتطاولات، والواضحات المعالم، يثرن رمزية القوة والتحدي، إضافة لما يمكن قراءته على صعيد اللون، فهي غالباً تلجأ إلى الألوان الحارة، المشعة، في تجسيدها للمرأة، فتوظف درجات الأصفر، والأحمر.
يؤكد واقع التشكيل الإماراتي علامات يمكن الارتكان عليها في قراءة مفهوم الرمزية في الحركة التشكيلية العربية والعالمية، فالعلاقة بين الرمز، واللغة البصرية، لا يمكن هدمها، ولا يمكن للعمل الفني أن يكون منزوعاً عن رمزيته الجوهرية، قبل أن يحمل رمزيته القصدية المدرسية.