العمل الثقافي العربي لا يعيش أحسن أيامه -حتى لا نقول إنه يعيش أسوأها - هذا ما بينته الندوة المصاحبة لاجتماعات المكتب الدائم لاتحاد الكتاب والأدباء العرب، التي احتضنتها دبي في الأيام الماضية، فقد أظهرت النقاشات حول الاستراتيجية الثقافية العربية ودور المثقف والسياسات الثقافية غياب برنامج عمل شامل للثقافة العربية، وعدم وجود خطة تنفيذية واضحة ناظمة، تتأسس عليها الأنشطة والمبادرات التي تنفذها المؤسسات المعنية بالثقافة، وكذلك فقدان المثقف لبوصلة الاتجاه في هذا الراهن العربي الذي اختلطت فيه الأوراق، وباغتت فيه التغيرات الجذرية والانقسامات العميقة أكثر الاستشرافيين المستقبليين حصافة، ما أصاب هذا المثقف بحيرة عميقة لم يستطع بعد الخروج منها، لكن هل هذه الصورة العامة القاتمة هي حقيقة مطلقة أم أن هناك بعض العلامات المضيئة، وهل التسليم ينبغي بالرأي القائل باستقالة المثقف والمؤسسة الثقافية معا، وبغياب العمل الثقافي كليا، وهل يعفي تقاعس بعض المؤسسات الثقافية الرسمية عن دورها الناشطين الثقافيين أنفسهم من العمل؟.
هناك واقع لا يمكن الهروب منه في كل شأن عربي مشترك، وهو أن الخلافات السياسية تلقي بظلالها على مجالات العمل الأخرى، فتعيقها، وكلما استشرت الخلافات وتعمقت كما هو حاصل في الراهن كلما تراجع العمل المشترك وتراخى وقل الاهتمام به، والثقافة هي آخر ما يهتم به في مجال العمل العربي المشترك، وهي أول مجال يتأثر بالخلافات نظراً لقلة أهميته من وجهة نظر بعض السياسيين، هذه الحقيقة هي التي جعلت كل الاستراتيجيات الثقافية العربية سواء تلك التي وضعتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أو التي وضعت على مستوى إقليمي تتوقف في مهدها، ولا تخرج عن الأوراق التي كتبت بها، ويبدو هنا أن انتظار حل الخلافات العربية، وتوقف النزاعات لكي نبدأ تنفيذ استراتيجية ثقافية عربية مشتركة، يبدو نوعا من الاستقالة الأبدية من العمل الثقافي، لأن تلك الخلافات لن تحل في المنظور القريب، وربما البعيد أيضا، لذلك فالواقع يحتم على المثقفين والناشطين أن يبدأوا بالعمل الآن، وبالأدوات والآليات المتاحة لهم، دون انتظار لشيء آخر، وأن يرضوا بأقل القليل من العمل الثقافي من أجل أن يحققوا نتيجة.
الواقع أن هذه الصيغة من العمل بالمتاح، لم تتوقف يوما من الأيام، ولم يحدث أن استقال المثقف بشكل كلي من العمل، وكذلك المؤسسة الثقافية، فقد ظل هناك دائما ناشطون ثقافيون يعملون سواء بالإنتاج الفكري والإبداع كما يفعل الباحثون والمفكرون والشعراء والروائيون والتشكيليون، أو بالعمل الميداني المتمثل في إقامة الأنشطة والمهرجانات ورصد الجوائز في مختلف المناحي الثقافية، وإصدار الكتب والمجلات، وهذا جانب بارز اليوم في دول الخليج والإمارات بشكل خاص، فهذه جوانب مضيئة في العمل الثقافي العربي، وإن كانت جزئية، وربما يكون غياب التفاعل الجماهيري مع المنتج الثقافي أحد أسباب الضعف البين في العمل الثقافي، وهذا الغياب يعزى لعوامل كثيرة ليس أقلها غياب الوعي وكبت الحريات في بعض الدول العربية.
المطلوب اليوم في العمل الثقافي العربي مع استحالة خطة شمولية، هو العودة إلى الجزئيات بتحفيز الناشطين الثقافيين على مستوى اتحادات الكتاب والنقابات المعنية والجمعيات والمراكز الثقافية الأهلية من أجل أن يقوم كل بما يستطيعه، فحين يقتنع أصغر ناشط في جمعية فنية بأن ورشة رسم أطفال من الحي المجاور له، هي عمل ثقافي قد يخرج فنانا أو فنانين كبارا، وينفذ تلك الورشة، فإنه قد قام بعمل ثقافي جليل، مثل هذا العمل هو ما ينبغي التركيز عليه الآن لأنه سهل وقريب ولا يتعلق بالسياسات، ولا يكلف شيئا، ويمكن أن يدوم.
dah_tah@yahoo.fr