في حياة كل إنسان مجموعة تجارب ومشاهدات تشكل ذكرياته الأولى التي يستدعي بعضها باستمرار، هي لحظات من حياتنا نتعلق بها، نتفيأ ظلالها، محاولين تلمس واقعنا ورسم طريق حياتنا دون أن ندرك ذلك في أغلب الأحيان.
تعد الذكريات الأولى أحد أهم المفاتيح أو التعبيرات النفسية دلالة على شخصية الفرد، وكما يرى عالم النفس الشهير ألفرد أدلر فإنه لا يوجد ما يمكن أن نطلق عليه «ذكريات بالمصادفة»، فمن بين آلاف التعبيرات التي تمر بالفرد يختار أن يتذكر تلك التعبيرات التي تترك انطباعاً عليه وعلى مشاكله، إن مثل هذه الذكريات تمثل قصة حياته وهي قصة يسترجعها الأفراد المرة بعد الأخرى، بغرض تشجيع أنفسهم على التركيز في هدفهم الأساسي، أو يعدون أنفسهم عن طريق الخبرات السابقة لمواجهة المستقبل بطرق مجربة وموثوق بها.
يقول أدلر واصفاً أهمية الذكريات الأولى في مؤلفه (معنى الحياة): «يوجد أمامنا مخزون هائل ومتاح من المواد التي يمكن استخدامها، فإن كل كلمة وكل فكرة وكل شعور وكل حركة تساهم في فهمنا لمفاتيح شخصية الفرد، نحن مثل عالم الآثار الذي يجد شظايا وبقايا من أدوات وحوائط ومبانٍ وآثار محطمة، ومن خلال هذه الشظايا يتمكن الفرد، سواء كان فرداً عادياً أو مفكراً أو كاتباً أو شاعراً أو فناناً من الاستدلال على طبيعة وشكل الحياة في تلك الفترة البائدة. ولكننا لا نتعامل مع أشياء بائدة، وإنما نتعامل مع آلاف الجزئيات والمواد المرتبطة ببعضها البعض، والتي تشكل الإنسان وشخصيته».
يؤكد أدلر أن الذكريات لا يمكن أن تكون معاكسة لأسلوب حياة الفرد، بل لا بد لها من أن تتفق معه اتفاقاً تاماً، فلو أن هدف «التفوق» كان يتطلب من فرد ما أن يشعر بأن الجميع يحاولون الاستخفاف به وإذلاله، فإنه سيختار أن يتذكر تلك الأحداث التي يمكن فهمها على أنها محاولات للاستخفاف به وإذلاله، وعندما يتغير أسلوب حياته فإن ذكرياته سوف تتغير أيضاً، وسيتذكر أحداثاً مختلفة، أو على الأقل فإنه سيتفهم تلك الأحداث بطريقة مختلفة.
وهكذا نرى أن الذكريات تخدم الغرض نفسه الذي تخدمه الأحلام، فإنه عندما يكون على البعض اتخاذ قرار ما، فإن الكثيرين يحلمون بإحدى التجارب التي تمكنوا من اجتيازها بنجاح، فهم هنا يرون أن القرار ما هو إلا تجربة، ولهذا فهم يحاولون إعادة خلق الجو السابق الذي تمكنوا فيه من اجتياز هذه التجربة بنجاح.
ومن هنا جاءت الأهمية القصوى لمعرفة ماهية الذكريات الأولى، فهي توضح الأصل الذي خرج منه أسلوب حياة الفرد في أبسط صوره، ويمكن الحكم من خلال تلك الذكريات الأولى في حياة الفرد.
غيث خوري