يقف في قلب مدينة فولجو جراد الروسية أحد أهم النصب التذكارية والأعمال الفنية في العالم، وواحد من أهم الرموز الوطنية في الاتحاد السوفييتي سابقاً وفي روسيا اليوم، هو نصب «الوطن الأم ينادي» الذي يقف شامخاً على تلة «ممايف كورغان»، شاهداً على معركة ستالينغراد الأسطورية ورمزاً للنصر على النازية في الحرب العالمية الثانية.
افتتح تمثال «الوطن الأم ينادي» عام 1967، وهو الأطول في روسيا والثاني في العالم، وشيد تخليداً لضحايا معركة ستالينغراد. و يرتفع هذا التمثال بطول 85 متراً، إضافة إلى 16 متراً لأساسه في عمق التلة، كما يبلغ وزنه 8000 طن، وتتمثل خاصيته الأبرز أنه يقف بفضل وزنه، حيث يمكن حمله ونصبه في مكان آخر إذا استدعت الضرورة.
يعد تمثال«معبد بوذا» في الصين الأطول في العالم متبوعاً بتمثال «الوطن الأم ينادي» في روسيا ثم تمثال الحرية في أمريكا ثم تمثال «المسيح الفادي» في البرازيل، وكان نصب «الوطن الأم ينادي» أطول تمثال في العالم عند إقامته عام 1967، وقد شيد بإشراف النحات السوفييتي المعروف يفغيني فوتشيتشيك، والمهندس نيكولاي نيكتين.
إن القيمة التي يحملها هذا النصب العملاق لا تتوقف عند ضخامته أو حجمه أو إبداعه الفني فقط، وإنما تمتد إلى تلك القيمة المعنوية المترسخة لدى عموم الشعب الروسي في هزم أعتى الفاشيات العالمية في ذلك الوقت، وبذلك أصبحت أهمية هذا النصب متمثلة في مستويات فنية وثقافية ونفسية عدة. مع دفن أكثر من 33555 شخصاً في سفح النصب، فإن هذا التمثال ليس رمزاً للنصر فقط، إنما أيضاً هو تكريم للآلاف من الناس الذين حاربوا وماتوا في سبيل الوطن.
في هذا النصب الهائل تظهر شخصية امرأة (الأم) ترفع السيف وفمها مفتوح كأنها تصرخ وتتجه يدها الأخرى وكأنها تحث على الاندفاع أو التحرك، وتمثل شخصية التمثال بوقفتها الشامخة وحركة جسدها مشهداً مهيباً للناظر، حيث تزرع أقدامها العملاقة بقوة على الأرض، وثوبها يلتف حول جسدها بما يشبه زي الآلهة اليونانية، وملامح وجه المرأة تبدو فيها الشجاعة، وفمها المفتوح فيما يبدو وكأنه صرخة النصر.
تمتد يدها فوق رأسها وتحمل سيفاً ضخماً يقارب ثلث حجم النصب، وتعابير وجه الأم ليست لطيفة وإنما هي قوية وقريبة من الوحشية والملامح الثأرية الصرفة، ويبدو ذلك مقصوداً في مواجهة مع المفاهيم التقليدية للأنوثة كما صورت في الأعمال التشكيلية المختلفة.
كان لهذا التمثال الأثر الكبير في الهوية الوطنية والسياسية السوفيتية، بوصفه ذكرى نصر مدينة ستالينغراد السوفييتية في واحدة من أشد وأعنف المعارك العسكرية على الإطلاق وأكثرها دموية خلال الحرب العالمية الثانية، حيث بقي الجيش الألماني لخمسة أشهر و 10 أيام وهو يحاصر المدينة، ويدكها من الجو في قصف عشوائي على مدار الساعة، ما حوّل المدينة إلى ركام وأنقاض وهيأ للجيش الألماني دخول مساحات واسعة منها، واضطراره لخوض حرب شوارع. وكان الغرض من معركة ستالينغراد هو السيطرة على القدرة الصناعية لمدينة ستالينغراد، وأيضاً السيطرة على نهر الفولغا وإغلاقه، حيث كان يستخدم كمنفذ لشحن الإمدادات والذخيرة، إضافة إلى الجانب النفسي والمتمثل في إخضاع المدينة التي تحمل اسم القائد «جوزيف ستالين» وما يشكله ذلك من إحباط معنوي للسوفيت.
وبعد أشهر من القتال نفذ الجيش الروسي سلسلة من الهجمات المضادة التي عرفت باسم «عملية أورانوس» ونجح في نهاية المطاف في إضعاف الجيش الألماني في عام 1943، وخلال هذه المعركة مات عشرات الآلاف من الجنود السوفييت على تلة «ممايف كورغان»، وقد استطاعت الهجمات المضادة للجيش السوفييتي تسطير لحظة حاسمة في تاريخ الحرب العالمية الثانية حين أوقفت الزحف النازي في الكتلة الشرقية.
ولكون هذا النصب هو الأكبر عالمياً في وقت إنشائه، أصبح رسالة إلى العالم أن الاتحاد السوفييتي قوي ومهم ولن يكون عاجزاً في وجه التحديات، ويظهر ذلك جلياً من خلال ملامح التحدي البادية على وجه المرأة، إضافة إلى ما يحمله هذا النصب من مجموعة الإشارات والرموز، فصرخة المرأة هي صرخة النصر، وحركة يدها اليسرى تدعو الشعب للوقوف والدفاع دوماً عن الوطن.