لكل تجربة شعرية أدوات تعبيرية ووسائل فنية تمدها بقيمة جمالية وتجعل منها تجربة متميزة متكاملة في الأسلوب وطريقة التعبير، واللغة الشعرية هي جوهر الإبداع، ووسيلة الصياغة الشعريَّة، وهي أداة الشاعر الطيعة في بناء المشهد والصورة، وتحفيزها البصري والجمالي، فالشاعر خلاّق صور وتراكيب شعريَّة جديدة، لذلك عليه تقع المسؤولية في خلق الإثارة الشعريَّة وجذب القارئ من خلال صياغته المتفرِّدة.
إن الكتابة المشهدية في الشعر هي من أهم تلك العناصر الجاذبة والخلاقة التي يستطيع الشاعر تضمينها في نصه، محاولاً أن يشكل ويبني حدثاً افتراضياً في الزمان والمكان أو وصفاً تصويرياً عالياً لفعل أو شخصية أو حالة، ويمكن تتبع هذه الحالات في الشعر العربي منذ القدم، من خلال نماذج كثيرة في الشعر الجاهلي أو في المراحل التاريخية المختلفة للشعر العربي.
وقد استمرت هذه المحاولات بصورة واضحة وجلية في الحداثة الشعرية، فالشعراء المعاصرون استفادوا من ظهور السينما ومن تقنيات هذا الفن في تشكيل صورهم الشعرية المبتكرة والخلاقة عن طريق اللقطات، والمشاهد، والمونتاج (التقطيع)، فالصورة السينمائية هي ما كان يطمح الشاعر إلى تمثيله في نصه، عبر اللغة الشعرية التي يمكن تأملها عن طريق الخيال، وهنا تتماس المشهدية بين السينما والشعر.
يقول أحمد محمد الصغير في بحثه المعنون «الصورة الشعرية: الدرامية في قصيدة الحداثة العربية»: «لقد استمد الشاعر الحداثي من المونتاج السينمائي تقنية لبناء الصورة الشعرية بوصفها أداة فنية من أدوات السينما، لأن الخطاب الشعري الحداثي قد انفتح على جميع الفنون الأخرى وأفاد من أدواتها»، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قوة هذا الخطاب وثرائه الفني والدلالي، فقد حقق الشاعر الحداثي من خلال إغراقه في التجريب المستمر في استخدام الصورة الشعرية إنتاجاً شعرياً يعتمد على بلاغة المشهد وتوليف علاقات بين اللقطات بعضها ببعض. وقد التفت شعراء الحداثة إلى التغيرات الحديثة التي طرأت على الحياة بصفة عامة في الربع الأخير من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، والتي تتمثل في ثقافات عدة، كثقافة الحاسوب، وشبكات الإنترنت التي جعلت العالم مجرد قرية صغيرة.
الشعر بدأ قريباً من السينما، فإذا كانت السينما في إحدى تجلياتها سردية مرئية فإن الشعر بدأ سردية محكية، وإن طموح الشاعر كان منذ البداية أن تصبح قصيدته صورة تنطبع في الذاكرة، وهو نفس الطموح الذي بات يراود صانع السينما منذ اكتشاف الكاميرا بأن تتحول الصور المتحركة في شريط مرئي نسميه الفيلم إلى قصيدة تهز وجدان متلقيها، وتنبش وعيه منقبة في مخزونه الإنساني عن مصادر حزنه وسعادته.
غيث خوري