لا يحتمل الفن رسالة إيديولوجية صرفة، سواء لفرد أو شريحة في المجتمع، هذا نوع من محاولات أدلجة الفنون والإبداع، لتخدم قضايا سياسية معينة، أو لتشكل رافعة لمشروع سياسي، هذا من باب الخدعة التي يروجها أي كان لمشروعه الذي يتحول لحالة هتافية ترددها آلاف الحناجر، حدث ذلك مع المشاريع الكبرى، مثل المشروع القومي، والاشتراكي، وغيرها من المشاريع الإيديولوجية، حيث استخدم الفن والأناشيد الثورية والشعارات ورسم الشارات والهتافات، من أجل تمجيد فكرة معينة، في مشهد عاطفي جدا، يبدو معه الفن مستغلاً تماما.
الفن شيء لذاته يجمل الحياة ويخفف من بؤس الواقع، لا يفترض حلولاً ولا ينتج قيماً أخلاقية ليصبح فناً رسالياً، والتفكير بهذه الطريقة يشجع قيماً معينة وينحاز لها، ويجعل الفن في خدمة فكرة مقابل أخرى، وهذه المسألة التي يروج لها الإيديولوجيون والعقائديون، والتي تذهب إلى تكريس رسالة للفن، تنتقل كذلك لتشمل النقاد الأكاديميين، الذين يفرضون ما يشبه الحراسة والوصاية على الفنون الإبداعية إلى حد تقسيم الفن إلى راق ومنحط وعال ومبتذل، وغيرها من التقسيمات التي تكبل الفنون والآداب بمعيارية خاصة، لكن الفن يبقى عصيا على هذه المعيارية، بل متمرد عليها، فليس للفن معيار سوى الجمال والذائقة، فالحس الجمالي هو المشترك بين المبدع وبين المتلقي المتذوق للفنون، والذي هو بدوره مبدع في سياق آخر، أي سياق العملية الإبداعية التي لا تكتمل إلا وفق لعبة السياقات الجمالية هذه، بالتالي فإن هذه المعيارية التي يفرضها النقاد، وللمفارقة هم ليسوا مبدعين، تقترب من رؤية السياسيين والأيديولوجيين للفنون والإبداع.
إذاً للفن رسالته الخاصة، ولكنها ليست تلك ذات المضمون الإيديولوجي والعقائدي التي تريد أن تفرض أخلاقا معينة على المجتمع، في سياق حرب الرؤى والتصورات، والتي يكون ميدانها المجتمع والناس، والتي كذلك تجعل الفن أقرب للبضاعة التي تعرض في الأسواق، المسألة ليست كذلك فللفن رسالته الجمالية والإبداعية، والمبدع ليس واعظا ولا يرغب في الانتصار لرؤى معينة أو أخلاق محددة وإلا صار مروجاً للإيديولوجيا أو التفكير العقائدي الذي ينطلق منه، ليصبح متورطاً في أفكار تريد إعادة صياغة الإنسان وفق اتجاهات فكرية محددة، بالتالي يتورط في موقف مناقض لموقف فكري آخر.
يكفي الفن رسالته الجمالية، والغريب أن الكثيرين ما زالوا يتصورون الفن رسالة أخلاقية، ويجب أن تمسك بتلابيبه فكرة الانتصار لموقف محدد، ولذلك بالطبع علاقة بطرائق التفكير التي نتبعها والتي نشأنا عليها، وهي التي تضع موقفا على النقيض من الموقف المقابل، وفق منهج «إما/ أو»، ويرغب هؤلاء أن يتواطأ الفن مع هذا المنهج الإقصائي.
عندما نبتعد عن هذه الأساليب في التفكير سنكتشف أن للفن قيمته الخاصة والتي تؤثر بفعل حيويتها على الموضوعات الأخرى كالسياسة والأخلاق، لا أن يصبح مجرد رافعة لها، بهذه الطريقة نقترب من تأويل نيتشة الذي رفض فكرة «الفن للفن»، عندما ذكر بأن الفن أكبر منبه من أجل الحياة، ويستهدف التكوين الأخلاقي للناس، أي يفعل ذلك بقيمه الخاصة وليس كمستجيب لأخلاق معينة أو قيم محددة.
alaamhud33@gmail.com